بداية لا بد أن نسجل للدولة تحملها للمسؤولية وتقبلها للنقد البناء في النائبات القريبة التي حدثت بالمجتمع كحمى الوادي المتصدع بجيزان وكالكارثة الوطنية الأخيرة أو التي نرجو ان تكون الأخيرة والمتمثلة في فاجعة مدرسة البنات بالهنداوية بمكة المكرمة والتي ذهب ضحيتها عدد مؤرق من بنات الوطن في عمر براعم كانت على وشك ان تتفتح وتستدير.
ثانيا، لابد ان نسجل أيضا للصحافة وللصحفيين والكتاب وعدد لا يستهان به من المواطنين الغيورين، جرأتهم الايجابية وحسهم الوطني العالي في طرح فاجعة مدرسة البنات وتتبع تفاصيلها وتوجيه أسئلة صريحة ومسؤولة الى المسؤولين عنها والى المتسببين فيها من قريب أو بعيد وإذا كان الهدف من النقد والمساءلة كما أكد ذلك سلوك الصحافة نفسها وجميع الكتاب دون استثناء ليس هدفا تشهيريا أو فضائحيا بأي حال من الأحوال، فإن الهدف أيضا ليس لمجرد ايجاد «كبش فداء» لامتصاص مرارة الفجيعة. ولذا لابد ان نواصل هذه الجرأة الايجابية التي كشف الحادث عن مكامنها الأصيلة في المجتمع. وفي هذا لابد من رؤية حادث بهذا الحجم من الخسارة البشرية في اطاره الاجتماعي الأعم فلا نقبل بأقل من معالجة جذور أوضاعنا الاشكالية. والتي لابد أن نعترف بمسؤوليتنا عنها سواء بالصمت أو التغاضي أو التواطؤ أو الخجل في الحق وسواها من الادران الاجتماعية التي تكاد تغلق الطريق بين القاعدة والقمة وتخنق أي احتمال بتطوير العلاقة في المسؤولية المشتركة في السراء كما في الضراء وفي الشؤون الصغيرة كما في الشؤون الكبيرة.
ثالثا، إننا نرجو ان نتعلم من الدرس القاسي لحريق مدرسة البنات والذي كان ثمنه باهظا بأن نقاوم المتع الزائلة التي قد نجنيها من الجبن والسلبية أو «التطنيش» و«سياسة تمشية الحال». إذ ليس طبيعيا ان ينعم الاعلام بالسبات. وينعم المواطن بطلب السلامة وينعم المسؤول بعدم المحاسبة في انتظار الكوارث لتدق جرس الأخطار المحدقة بعد ان تحولت الى حقيقة حارقه. أما إذا لم تحدث كارثة لا يمكن إخفاء نتائجها عن أعين الملأ، فإننا لا نكترث إلا بالركض خلف مصالحنا الشخصية وخلاصاتنا الذاتية الصغيرة وان جاء ذلك على حساب الوطن وأرواح العامة من المواطنين ولصالح التستر على الأخطاء وأوجه القصور، هذا إن لم يتعداه الى تجميلها وترويجها والمساهمة في اثرائها بوهم اثبات الولاء للحكومة وهذا مع ان مثل هذا الولاء السلبي الذي يضر أكثر مما ينفع لا يمكن ان تطالب به أي حكومة عاقلة كحكومتنا تريد لها مستقبلا مع وطنها وشعبها.
رابعا، لقد كاد في ظل استشراء هذا النوع من السلوك السلبي الذي يعد من المخلفات النشطة لمرحلة الطفرة النفطية ان يتحول مفهوم «المواطن الصالح» من مفهوم المواطن المسؤول مسؤولية ايجابية عن منظومة الحقوق والواجبات تجاه الوطن الى مفهوم ضيق منغلق يعني في جانب منه «أنا ومن بعدي الطوفان» ويعني في الجانب الآخر «طلب السلامة» بالتنازل عن الحقوق وبالتهاون في أداء الواجبات، وبالمزايدة على من لديه حد أدنى من الحس النقدي. وكأن ليس «للمواطن الصالح» ليثبت ولاءه وسعوديته إلا أن يكون عالة أو إمعة أو الاثنين معا.
خامسا، ان فاجعة مدرسة البنات بالهنداوية بمكة المكرمة، وكما ذكر ذلك بعض الزملاء من الكتاب لا تكوي ذاكرتنا بفاجعة مدرسة جلاجل فقط ذلك المبنى المتهالك الذي تهدم على رؤوس تلميذات يافعات عام 1397ه كما انها لا تنكأ وحسب جراح الحريق الذي شب بأحد مستشفيات جدة عام 78م وحصد أرواح مالا يقل عن 17 امرأة ولكنها تحيلنا وبقوة لنضرب حسابا للمستقبل. ولهذا فإن فاجعة مدرسة البنات بالهنداوية وكما أشار الى ذلك زملاء آخرون تفتح عدداً من الملفات ومنها كما كتبوا ملف المناهج، الملف الاداري، ملف الدفاع المدني، ملف توزيع الميزانية، ملف قصور اجراءات المتابعة والمحاسبة للمسؤولين، ملف ضعف التواصل مع القيادة واطلاعها بصراحة ودون مواربة على مطالب وحاجات المواطنين، ملف المدارس المستأجرة الخ.
غير انني سأكتفي هنا بنقاش بعض أوجه ثلاثة فقط من هذه الملفات مما لم يشر اليها مشافهة بعد وهي على التوالي كما يلي:
1 الفجوة الواسعة في الخدمات التنموية بين المدن الرئيسية والقريبة من المركز وبين المناطق النائية.
2 الفجوة في مستوى الخدمات التنموية المتاحة لذوي الدخل المحدود والأحياء الشعبية.
3 فجوة الحصة الناقصة في نصيب النساء من عملية التنمية.
ان الملفات الثلاثة المذكورة أعلاه تشير الى ما يمكن تسميته بالحلقات الضعيفة في عجلة التنمية وهي تمثل حالة الفئات التي كانت أقل حظا وحصة في نيل نصيب معقول من كعكة النفط.
ولتوضيح ما أريد طرحه أقول انه على الرغم من حرص الدولة على تعميم الفائدة من الدخل الريعي للبترول وخاصة في مرحلة فورة اسعاره بتوزيعه توزيعا عادلا، فقد ظلت هناك فجوات لم يجر تجسيدها بالقدرالمطلوب أو الممكن في مسيرة التنمية. وربما تسهم الاستعانة ببعض الأمثلة من النوائب القريبة في توضيح ما أرمي اليه حتى لا أُفهم خطأ وكذلك في تحديد مكامن الفجوات لتلافيها.
1 لقد كشفت أزمة حمى الوادي المتصدع بمنطقة جيزان قبل قرابة عامين عن فجوة لم يجر تجسيدها كما يجب في عملية التنمية وهي التي أشرنا اليها بالفجوة بين المدن الرئيسية القريبة من المركز وبين الأطراف كالقرى والمناطق البعيدة، وقد انعكست هذه الفجوة في القصور الشديد في عملية ايصال الخدمات التنموية الى تلك المنطقة، والذي بدا واضحا انه كان من الأسباب المباشرة لانفجار الوضع الصحي والبيئي فيها خلال تلك الضائقة الجيزانية. وهذا مما نشط والحمد لله أخيرا محاولات تلافي الوضع قبل تفاقمه ليس في جيزان وحدها بل في مناطق نائية أخرى كمنطقة نجران. وذلك بضمها الى نظام المناطق وتعيين أمراء لها ليكونوا عيونا أمينة لصاحب القرار السياسي والاقتصادي في توضيح حالها ولتمثيلها في مجالس المقاطعات والمناطق وللتعبير عن الحاجات والمطالب التنموية لمواطنيها. وهذا الاهتمام المشكور من قبل قيادة الدولة بالأطراف التي نأت مما نأمل توسيعه في الاتجاه الشرقي للوطن كمنطقة الاحساء وسواها ليثمر بإذن الله اعطاء كل شبر في الوطن حصة متساوية في التمثيل والاهتمام والتنمية.
2 ان متابعة بعض تحقيقات الصحف وبعض رسائل القراء فيها وكذلك مجرد القيام بجولة في السيارة تكشف عن وجود ما يمكن ان يسمى بالفجوة التنموية في مستوى الخدمات والمستوى المعيشي بين الأحياء حتى في المدن الرئيسية. فعلى الرغم من قيام الدولة بتوزيع أراضي مجانية على عدد من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود بل وأصحاب الدخل الوفير أيضا مما يعرف بأراضي المنح، وعلى الرغم من تساوي فرص المواطنين في الحصول على قرض التنمية العقاري، فإنه لا يمكن انكار وجود تلك الفجوة في الخدمات والمرافق بين الأحياء الفارهة وبين ما يسمى بأحياء الدخل المحدود. وإذا كنا للانصاف لابد ان نقول انه ليس هناك مدينة في العالم تخلو من هذا التفاوت المعيشي، فإن التفاوت في الخدمات في المدن العالمية يكون راجعاً لتفاوت معدل دخل الدولة الضريبي الذي تعتمده الدولة في توزيع حصص الخدمات في كل حي حسب نسبة مساهمته الضريبية والتي يترتب عليها ارتباط مستوى الخدمات في الحي بالمستوى الاقتصادي لقاطنيه. أما عندنا وبما ان الدولة تأخذ على عاتقها تقديم الخدمات لجميع المواطنين ولجميع الأحياء وفي جميع المناطق بدون الاعتماد على أي جباية ضريبية فليس لهذا التفاوت في مستوى الخدمات المقدمة للأحياء ما يبرره.
وعلى سبيل المثال لا الحصر في تفاوت الخدمات، يمكن ان نشير الى حادث القطار الأخيرة، باعتباره وسيلة نقل لا يقبل على استخدامها ذوو الدخول المتوسطة وما فوق بالقدر الذي يستخدمها ذوو الدخل المحدود وبالتالي فإنها كوسيلة نقل لم تحظ بالتحديث والتجديد المطلوب لسلامتها وسلامة ركابها. ولعل وضع بعض المستشفيات ومستوى الخدمات المتردي في بعضها رغم الكفاءات الطبية الطيبة كمستشفى الشميسي بالرياض أو مستشفى الولادة بجدة مقارنة بمستشفيات حكومية أخرى قد تتميز حتى بوجود خدمات فندقية خمسة نجوم مؤشر على فجوة الخدمات. وبالمثل يمكن ان يقال عن مباني المدارس وخدماتها حيث تتفاوت من حي لآخر، ولابد لاحداث تنمية متوازنة ومتوازية لا تسمح باندلاع الكوارث من تجسيد هذه الفجوة.
3 فجوة الحصة الناقصة في نصيب النساء من عملية التنمية.. وفي طرح هذه الفجوة لن نقول بأن القاء نظرة واحدة على ما يصرف على قطاع الرياضة وحده كاف لتوضيح الحصة الناقصة التي يحصل عليها النساء. فذلك مجرد قطاع واحد من قطاعات الصرف وهو لا يمثلها كلها وليس بأهمها فيما يخص حصة النساء من الخدمات ولذلك فسنعمد الى نقاش أمثلة أكثر واقعية ويمكن بسهولة وبشيء من الارادة السياسية والاجتماعية والتدبير المالي والاداري تجسيد فجوته وهو قطاع تعليم وعمل النساء. وفي ذلك يمكن ملاحظة انه علي الرغم من ان الدولة استطاعت ان تعمم خدمات التعليم النسوي على جميع مناطق المملكة، كما استطاعت ان تجعل تعليم المرأة الزاميا الى نهاية المرحلة الابتدائية مع توفيره مجانيا لجميع المراحل الى نهاية المرحلة الجامعية بل وما بعدها إلا أن هناك فجوة ما لا نجزم بحجمها في نوعية الاهتمام والصرف الموجه لخدمة هذا القطاع ولنستدل بالأمثلة:
أ ففي أول وأكبر جامعة من الجامعات السعودية الحكومية لم تجر إلا مؤخرا المبادرة الى استحداث مبان خاصة بالقسم النسائي من الجامعة بكلياته وأقسامه العلمية والعلوم الانسانية. قبل ذلك ولمدة تقارب 20 عاما كانت طالبات هذه الجامعة يتلقين المحاضرات في المباني القديمة التي ارتحل عنها أساتذة وطلاب الجامعة الى حرم جامعي متكامل مزود بجميع الخدمات التي تتطلبها الدراسة الجامعية، وقبلها كانت دراسة طالبات الجامعة تتم في مبان مستأجرة أصلها بيوت عادية ولا يزال سكن الطالبات قائما في جزء من تلك المباني المستأجرة رغم تقادم عهد بنائها. وبذكر هذا المثال فإننا لا نسجل أي اعتراض وإنما نشير الى واقع الحال الذي لم تعط تعليم المرأة نفس الحق في الاعداد لبنيته الأساسية.
ب بالنسبة لمعامل اللغات ومعامل الدراسة الجغرافية لا تزال الأقسام النسائية تعاني من عدم كفايتها أو من عدم توفرها أصلا. وبالنسبة للمعامل والأجهزة والأدوات الخاصة بالأقسام العلمية فهي في حالة أكثر من رثة وأقل من ان تفي بشروط العمل الأكاديمي التطبيقي.
ومثل هذا الحديث ينطبق على عجز الكليات والأقسام النسائية للجامعات عن حيازة مكتبات بالمواصفات الأكاديمية المتعارف عليها في الجامعات بينما ذلك متوفر بصورة لا تقارن بأوضاع الطالبات في كليات وأقسام الطلاب من نفس الجامعات. ولهذا فقد كانت مبادرة حرم خادم الحرمين الشريفين بالتبرع لبعض الأقسام النسائية بمؤسسات التعليم العالي رحمة حلت بتلك المؤسسات التي لا تنال أقسامها النسائية حصة مالية من الميزانية العامة للجامعات توازي الحجم العددي والحاجات الأكاديمية للنساء.
ج إذا كان هذا حال حصة النساء الناقصة في ميزانية الجامعات، فإن حال الكليات والمعاهد ومدارس الرئاسة لتعليم البنات بمختلف مراحلها ليس أفضل حالا بالنسبة لمسألة الخدمات التعليمية المرجوه بما فيها بنيته الأساسية، ان لم يكن أسوأ وليس أدل على ذلك من زيادة اعداد شهيدات العلم على طرقات بعيدة وداخل وسائل مواصلات غير آمنة، وما تكشفه التحقيقات الصحفية عن واقع مدارس البنات خصوصا ما بعد كارثة مكة.
د بالاضافة الى الفجوة التي تبدو عميقة في مسألة الصرف المالي على قطاع التعليم النسوي بالمقارنة للمصروفات العامة الموجهة للقطاعات الأخرى هناك وهذا لا يقل أهمية عن ذات اليد في القطاع النسوي سواء في قطاعات التعليم أو العمل بالنسبة للصلاحيات واتخاذ القرارات. فالقطاع النسائي من المستوى الجامعي الى المستوى الابتدائي وفي أعلى مستويات العمل الأكاديمي والاداري الى أبسط مستويات العمل اليدوي نادرا مع يتمتع بأهلية تحول المنتميات اليه من البت في الشؤون الصغيرة ناهيك عن الكبيرة المتعلقة بسيره اليومي وبالتخطيط له أو حتى في التعبير عن حاجاته وتطلعاته.
ولذا فإن المشاكل الناجمة عن هذه الفجوة بالذات «الفجوة التنموية الواسعة في التعامل مع قطاع التعليم والعمل النسائي سواء من حيث عدم عدالة الصرف المالي أو عدم تخويله الصلاحيات والتي كان من أقسى تفاقماتها كارثة مدرسة البنات بالهنداوية بمكة المكرمة لا يمكن تعليقها على «الفراشة» أو الخالة التي لم تحسن استخدام موقد الغاز أو على البواب «العم» الذي لم يفتح الباب.
ان مثل هذه التبريرات لا يعول عليها إلا في تكريس سياسة الاجتزاء مما يعمق تلك الفجوات من خلال التقليل من شأنها بدل مواجهتها والقضاء عليها.
سادساً، إننا لسنا مجتمع ملائكة كيلا نكون مطالبين بالمراجعة الجذرية لما يحدث من أخطاء ولئلا يخضع المسؤول للمساءلة. ان كلمة «خصوصية مجتمعنا» التي نكررها ببغائية صباح مساء وكأن مجتمعنا خارج المجرة يجب ألا تكون المشجب الذي نعلق عليه الفجوة القائمة والخطيرة بين عالم الرجال وعالم النساء فيما يخص حصص وفرص التطوير والتنمية.
ان يكون لكل من النساء والرجال مجال منفصل عن الآخر في التعليم والعمل فهذا مقبول ولكن لابد ان يكون ذلك على أساس اعادة النظر في توزيع الميزانية.
وفي الختام إننا إذ نعزي كل أم وكل أب وكل أسرة ممن انفطرت قلوبهم وانشطرت أحلامهم بفقد فلذات الأكباد، فإننا نسأل الله ان يلهمنا الرشد قيادة وشعبا للعمل معا على ما يمنع تكرار مثل هذه الكارثة الوطنية فتكون خاتمة الأحزان.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|