انتقل إلى رحمة الله صباح يوم الخميس 10/11/1422ه عالما فذاً من أبناء المملكة الأجلاء، هو فضيلة الوالد العالم والقاضي والوزير ورئيس مجلس الشورى الشيخ محمد بن ابراهيم بن جبير، رحمه الله.
وحين نعى الناعي خبر رحيل الشيخ كان الوقع مفزعاً وشديدا لأنه جاء مفاجئاً، وفاجعة كبرى لرجل كان ملء السمع والبصر حتى أتاه اليقين.
ولقد كان لوقع رحيل ابن جبير أول رئيس لمجلس الشورى السعودي في مرحلة التحديث صدمة وذهول لهذا العالم، ولكن هذا قدر الله وامتحان لعباده فالحمد لله على قضائه (إنا لله وإنا إليه راجعون).
توفي ولا يزال على رأس العمل، وظل يعمل حتى اللحظة الأخيرة ومنها غادر المكتب بعد عناء يوم كامل الى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات الروتينية للقلب، دخل المستشفى وأخضع لعملية قسطرة إثر انسداد في شرايين القلب بمركز الأمير سلطان لأمراض القلب، ثم دخل في غيبوبة استمرت يوما ونصفاً فقد بعدها الوعي إلى أن لقي ربه وصلي عليه عصرا في جامع الإمام تركي بالرياض، ومنه الى مقبرة العود.
فرغم معاناته مع القلب ونصح الأطباء له بعدم إرهاق نفسه، إلا ان حرصه واهتمامه هو الذي جعله يواصل ولا يعطي بدنه حق الراحة.
والذين خرجوا وشيّعوه، وحضروا جنازته في المسجد ومنها الى مقبرة العود يتقدمهم الأمراء والعلماء والوزراء وأعضاء مجلس الشورى والسفراء وجمع غفير من المواطنين وأبناء الفقيد ومن ثم زاروا أبناءه، وجدوا الكثيرين ممن أحبه في بيته وهو مكتظ بمحبيه وهم يتقبلون التعازي ويعزون أسرة الفقيد.
نسأل الله أن يعوِّض الأمة عن الخسارة فيه خير العوض إنه كريم سميع مجيب الدعاء.
أحبه الناس القاصون والدانون ودعوا له بالتوفيق والسداد حياً، وهم اليوم يدعون له بالرحمة والرضوان بعد الرحيل.
عرف عنه رحمه الله حبه للعلماء وطلبة العلم، وسجله حافل بجليل الأعمال. وبموته فقدت المملكة والشورى واحدا من كبار رجالاتها وعلمائها.
شيخ تلقى تعليمه على أيدي علماء وشيوخ أجلاء رحمهم الله أمثال الشيخ العنقري، ابن رشود، عبدالله بن حميد، محمد الخيال، الشيخ عبدالعزيز بن صالح، وغيرهم.
والذي يعرف الشيخ ابن جبير عن قرب يرى أول ما يرى فيه سعة الصدر، بشوشاً، عطوفا، حنونا باسم المحيّا دائما.. إذا تحدث لا تمل حديثه وإن كان قليل الحديث، وامتلاك الكلام في المجلس، وإذا سكت ينصت لمن يحدثه ويترك لك فرصة الكلام، كان يجيد الاستماع وتلك سمة فاضلة كانت تشد الآخرين إليه.
إذا قربت من هذا الرجل لا تمتلك إلا أن تحبه وتحترمه، تجد فيه انه شخصية تجمع رجاحة العقل وسعة الصدر والقدرة على مواجهة الأمور.
كنت أزروه في منزله بين فترة واخرى في معية والدي حفظه الله (محمد الهويش). وفي مجلسه الذي كان يستقبل فيه الناس اربعة أيام في الاسبوع بعد صلاة المغرب رأيته دوما في هيبة الشيوخ وروح الشباب.
إذا دخلت مجلسه وكان يتحدث توقف عن الكلام، وقام عن كرسيه، وسلَّم عليك واحتفى بك وحيّاك، وسألك عن الصحة وعن الأقارب والأعمام، ويحدد الأسماء والاشخاص الذين من أسرتك ويسألك عن احوالهم ويعرِّف الجميع بك.. ثم يدعوك للجلوس بعد هذا الترحيب الغالي فيغمرك دوما بسماحته وبشاشته وكريم أخلاقه.
قال عنه أعضاء الشورى إنه كان في المجلس أخاً للكبير وأباً للصغير.. يجمع بين صفات الأب الحنون والقاضي القوي والرئيس الخبير المحنك المدرك للأمور.. تميز بدماثة الخلق وسعة العلم والورع.. غزيرا في العلم متواضعا في التعامل هادىء الطباع.. فعلا هو رجل دولة من الطراز الاول.. وجامعة بأكملها، لقد كانت حياته كلها عطاء وجهاداً سيفقده كل من أحبه.
كان رحمه الله يقبل دعوات الأصدقاء ويحرص على ان يحضر مناسباتهم الاجتماعية سواء أقيمت على شرفه أو حضرها ضمن المدعوين. ولا يحب ان يعتذر خاصة إذا لم يكن مرتبطاً ارتباطاً رسميا، بل لا يتردد في ذلك وتلك ميزة وتواضع جم منه رحمه الله.
دعوني أتحدث عن بعض الذكريات مع الشيخ ابن جبير والتي اختزنها في الذاكرة عنه. يقول عنه والدي الشيخ محمد الهويش: إنه من الجيل الأول الذي تخرج من دار التوحيد بالطائف، وكان يسبقنا بسنوات ثم عمل بالقضاء بعد التخرّج من كلية الشريعة بمكة المكرمة.. وجاء الى ديوان المظالم محققاً شرعيا وهناك تزاملنا وعملنا وكان مجيء والدي إلى ديوان المظالم بداية الثمانينيات الهجرية، بعدها انتقل الشيخ ابن جبير إلى محكمة التمييز، ثم رئيسا للهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى، ثم رئيسا للهيئة القضائية العليا بوزارة العدل.
وفي عام 1395ه عاد الى ديوان المظالم رئيسا له، وظل والدي يعمل معه حتى عام 1400ه، انتقل بعدها الوالد الى العمل في وزارة العدل مفتشا قضائيا، وفي عام 1407ه أختير الشيخ ابن جبير وزيراً للعدل، ويلتقي معه الوالد في نفس الوزارة. ويستمر وزيرا حتى عام 1412ه، عندما صدر الأمر الملكي بتعيينه رئيساً لمجلس الشورى بالإضافة الى عضويته في عدد من الهيئات والمجالس. واستمر والدي في الوزارة إلى أن صدر الأمر بتعيينه قاضي تمييز ولا يزال حفظه الله يعمل في هذا المنصب بمحكمة التمييز بالرياض.
أعود الى ذكرياتي مع الشيخ والتي تعود لعام 1416ه وتحديدا في شهر محرم.. حينما احتفلت مدارس دار التوحيد بالطائف بمناسبة مرور (50) عاما على تأسيسها.. وقد أعد احتفال متميز رعاه صاحب السمو الملكي الامير سعود بن عبدالمحسن نائب أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك بحضور سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله مفتي عام المملكة السابق، ومعالي الشيخ محمد بن جبير رحمه الله وفضيلة رئيس ديوان المظالم الشيخ ناصر الراشد رحمه الله ، ومعالي الاستاذ حمد السياري محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، والشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ عبدالله بن خميس، وعدد من أصحاب المعالي والسعادة وخريجي دار التوحيد.ألقيت في هذا الاحتفال العديد من الكلمات منها كلمة للأستاذ عبدالعزيز الشايع.. استعرض فيها تارخ الدار والدعم الذي حظيت به من قبل المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ثم أبنائه البررة من بعده.
وأشار إلى ما تميزت به دار التوحيد لاسيما ما يتعلق بالمواد الدينية ومواد اللغة العربية التي جعلتها في طليعة المدارس التي تخرّج منها صفوة طلبة العلم.. ثم ألقى الشيخ عبدالعزيز المسند كلمة الرواد أشار فيها الى البدايات الأولى للدار، وظروف تأسيسها، وأساتذتها المتميزين، والأساليب التي كان يتم بها اختيار الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من كبار المسؤولين في المملكة.
ثم ألقى والدي محمد الهويش وهو أحد خريجي الدار قصيدة بهذه المناسبة. ثم كلمة للدكتور محمد بن سعد بن حسين.. أعقبت ذلك كلمة فضيلة الشيخ محمد بن جبير التي استعرض فيها ما تميزت به دار التوحيد من حيث المناهج والاهداف ومستوى الطلبة المتميز، كما اوضح أسباب تسميتها بدار التوحيد.. حيث قال: إن التوحيد يرمز إلى أن منسوبيها أبناء عقيدة واحدة وأبناء وطن واحد، مشيراً الى أن اختيار الطائف موقعا لدار التوحيد كان لتوسط موقعها وتميز مناخها وقربها من مكة المكرمة.
ثم ألقى سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز كلمة توجيهية شكر فيها سمو الأمير سعود بن عبدالمحسن على تشريفه هذا الاحتفال.
وقال سماحته: إن هذه الدار إحدى حسنات الملك عبدالعزيز رحمه الله لهذه البلاد. كما أوصى سماحته بضرورة الاهتمام بهذه الدار واستمرارها على نهجها المتميز، ودعا سماحته للجميع بالتوفيق والسداد.
ثم ألقى عبدالله بن خميس قصيدة بهذه المناسبة، ثم قدَّم الأمير سعود بن عبدالمحسن الهدايا والدروع التكريمية لعدد من رواد الدار.
أعود الى الذكرى والموقف، وهو عندما أراد الشيخ ابن جبير الذهاب الى الطائف لحضور هذا الاحتفال احتفال دار التوحيد كان قد حدد من سيرافقه في الطائرة الخاصة التي ستتوجه الى الطائف، وكان ضمن الوفد المرافق له والدي وهو من الزملاء والمعارف الخاصين والمحبين له.. وقد أبلغ الشيخ ابن جبير أنني سأحضر المناسبة. وفور ان علم قال يبلغ الابن خالد ليكون معنا في الرحلة.. وقد وجدت حرصا في ذلك ولكنه أصر، وذهبت. وفي رحلة العودة من الطائف بعد انتهاء الاحتفال كان ترتيب الرحلة أن تعود قبل منتصف الليل فقد كان على الشيخ أن يحضر حفلة عشاء أقامها على شرف معاليه الدكتور فهد العرابي الحارثي عضو مجلس الشورى ودعي إليها جمع من الصفوة.وقد حاولت أن اعتذر وألا أعود في نفس الرحلة لأني قد أجد حرصا في ذلك. وتوقعت ان يعود مع الشيخ بعض المسؤولين والمشايخ وزملائه الذين حضروا المناسبة.. وفوجئت بالابن الفاضل للشيخ الجليل الدكتور جبير يؤكد ذلك حسب توجيهات معالي الشيخ.. قلت للدكتور (جبير) أخشى أن يكون هناك حرج بسبب محدودية مقاعد الرحلة.. وكانت المفاجأة أكبر من توقعاتي، فإذا بالشيخ نفسه يبلغني وهو يغادر مكان المناسبة قائلاً: تعود معنا يا خالد ولا أقبل أي عذر منك، فأنا قبلت عذر الوالد الذي لن يعود معنا لأنه قال لي إن لديه ارتباط عمل في جدة.. أما أنت فمعنا، وتوكلنا على الله للمطار.. وقلت: أبشر يا شيخ أنا حاضر بإذن الله.
وخلال رحلة العودة التي ضمت لفيفاً وأنا منهم والدكتور جبير ابن الشيخ.. دار الحديث والذكريات عن هذه الدار والسنوات التي أمضوها فيها، والجيل المتفوق منهم، وكيف كانت الأمسيات والأنشطة الثقافية تقام في هذه الدار رغم إمكاناتها البسيطة في ذلك الوقت ومسابقات الشعر والقصة.. وانقضت الرحلة.. ولم ندر سوى بإعلان ربط الحزام استعداداً للهبوط في مطار الرياض.. انتهت الرحلة وحديث الشيخ الشائق الحافل بالذكريات الثرية لم ينته.ومن الذكريات التي أحملها عنه رحمه الله وكانت حديثة العهد قبل فترة قريبة.. أن زاره أخي يوسف في المنزل ويريد مقابلته، وكان قد سألني عن أوقات جلوس الشيخ واستقباله.. فقلت إن أنسب وقت هو بعد صلاة المغرب وحتى أذان العشاء.
فزاره وأهدى له شريطا حصل عليه من مكتبة الإذاعة لبرنامج مسجل.. جمع شيخين هما ضيفا الحلقة وهما الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير رحمه الله والشيخ عبدالعزيز بن ابراهيم الهويش (عمي) وشقيق الوالد وهو شيخ وصديق مقرّب للشيخ ابن جبير ومن الدفعات الأولى التي تخرجت من دار التوحيد وقد توفي عام 1394ه وهو يحمل منصب نائب رئيس ديوان المظالم في عهد الرئيس السابق الشيخ المسعري.. ويعود تاريخ هذا الشريط إلى منتصف الثمانينيات الهجرية، وقد سجل من برنامج تلفزيوني عنوانه (مجالس الإيمان) كان يعده ويقدمه الإعلامي المخضرم ومدير عام الإذاعة في ذلك الوقت الاستاذ زهير الايوبي متعه الله بالصحة، والذي انتقل إلى موقع آخر خارج الوزارة.وكان لوقع إهداء هذا الشريط الغالي الأثر الطيب والشكر الجزيل والعميق من الشيخ ابن جبير الذي لم يكن يحتفظ بنسخة منه، وكان يتضمن لقاءً عزيزاً على نفسه.
كان رحمه الله على اتصال وسؤال دائم عن صحة الوالد حفظه الله أثناء مرافقتي له في رحلته العلاجية في الولايات المتحدة الامريكية عام 1420ه.
رحم الله شيخنا (أبا خالد) ورزقنا ومحبيه من عائلته وأصدقائه الصبر والسلوان، وأن يجزل له الثواب جزاء ما قدمه لأمته ووطنه، داعين الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجمعنا وإياه بدار كرامته.. إنه سميع مجيب.
خالد بن محمد الهويش |