بقدر ما كان احتلال جيش صدام للكويت، عام 1990م، جريمة فاحشة كان برهاناً واضحاً على غباء من قام به إن كان قد ظن أنه لن يجبر على إنهائه. أما كونه جريمة فلا أظن أحداً لديه ذرة من إنصاف إلا وينظر إليه هذه النظرة. وأما كونه برهاناً واضحاً على غباء من قام به فلا يظن أحداً لديه ذرة من عقل إلا ويدرك أن الدول التي تمتلك القوة المادية الحقيقية في العالم وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية لها مصالح اقتصادية واستراتيجية خاصة ومهمة في منطقة الخليح، ولا يمكن أن تقبل ما قام به صدَّام من عمل لا يقتصر على احتلال الكويت فحسب مع أن هذا وحده كافٍ للتحرك بل سيشمل التأثير على مجريات الأحداث في المنطقة كلها أيضاً. وإذا كان اتصاف صدام بالصفات الإجرامية منذ أن استبد بمقاليد الأمور في العراق أمراً لا يحتاج إلى تدليل فإن خوف العقلاء ممن كانوا يعملون معه من بطشه هو الذي منعهم، فيما يبدو، من تبيان خطأ سياسته الرعناء.
ولقد كان ما أقدم عليه صدام من عمل إجرامي باحتلاله الكويت السند الرسمي المعلن لمجيء القوات الأمريكية إلى المنطقة؛ بما في ذلك المملكة العربية السعودية.
لكن ما الأهداف الحقيقية وراء مجيئها؟
جاء في مقالة للأخ العزيز الدكتور عبدالله الفوزان (الوطن، 23/11/1422ه)؛ عنوانها «نستاهل»، أنه في بداية الحملة العسكرية الأمريكية ضد العراق لم يكن الغرض حماية المملكة العربية السعوية، ولكن تحرير الكويت.. غير أن إعلام المملكة بمحاولته خطأ إقناع الرأي العام فيها بضرورة مجيء القوات الأمريكية أظهر مجيئها على أنه للدفاع عنها.
وأوضح الدكتور عبدالله أن المملكة لم يكن ممكناً أن تتخذ موقفاً حيادياً من احتلال جيش صدام للكويت، وبالتالي لم تكن أصلاً محتاجة إلى من يخوفها من خطر عراقي محتمل حتى تهب لتحرير هذا البلد الشقيق المحتل ظلماً وعدوانا. وكل متأمل في الأحداث السابقة لذلك الاحتلال، والمتزامنة معه والتالية له يتبين له رجحان صحة ما ذكره الدكتور عبدالله. ومن ذلك أن المسؤولين الأمريكيين الذين قدموا إلى المملكة لمفاتحة قادتها في المجيء إليها كانوا متخوفين من ردود فعل هؤلاء القادة، وكانوا قد وضعوا عدة خيارات للبدء في الحديث معهم لإقناعهم بالمجيء. لكنهم وجدوهم مستعدين للقيام بكل ما يستطيعون لرفع الظلم والعدوان عن الكويت؛ وبخاصة أن البلدين الشقيقين تربطهما علاقات وطيدة في طليعتها الجوار وعضوية مجلس التعاون.
ولعل مما يرجِّح صحة ما أشار إليه الدكتور عبدالله من خطأ إعلام المملكة بإظهاره لهدف سياسي محلي آني مجيء القوات الأمريكية إلى بلادنا على أنه للدفاع عنها، أن ذلك الموقف الإعلامي الذي ظُنَّ حينذاك أن فيه مصلحة، وإن تكن آنيَّة، قد اغترَّ به من اغترَّ. بل إنه وجد بين من يسمون بالنخبة المثقفة، أو المتعلمة، من خفي عليه ذلك الأمر، ومن أغرب ما قرأت ولا أود أن أعبَّر بسوى الاستغراب مقالة نشرت، قبل شهر تقريباً، في صحيفة الحياة لكاتب من أبناء المملكة يحمل شهادة عليا ويدرس في جامعة مرموقة، فقد قال في مقالته: إن القوات الأمريكية لم تأت إلى بلادنا، عام 1990م، بدافع اقتصادي أو استراتيجي، وإنما من منطلق أخلاقي (هكذا).
بِمَ يخرج المتأمل في أحداث تلك المرحلة؟
إن الادعاءات الباطلة بتبعية الكويت للعراق كانت موجودة عندما كان العراق يحكم حكماً ملكياً. ومن المحتمل أنه لم يمنع الحكومة العراقية حينذاك من القيام بحركة ضد الكويت إلا وجود نوع من النفوذ البريطاني في العراق، وكون الكويت ما تزال تحت الحماية البريطانية. ثم تغيّر الحكم في العراق إلى نظام جمهوري، وبعد هذا بقليل استقلت الكويت من تلك الحماية. فتحرّك الزعيم عبدالكريم قاسم، وأوشك أن يغزو الكويت لولا المسارعة؛ عربياً وبريطانياً، للحيلولة دون ذلك، وظل التهديد العراقي للكويت موجوداً في أغلب فترات الحكم البعثي للعراق إلى أن حدث غزو صدام الغادر؛ علماً بأنه قد اعترف بدولة الكويت وتبادل السفراء معها. وكان من أدلة نوايا ذلك الغدر مفاجأة صدَّام لخادم الحرمين الشريفين، إبان زيارته للعراق قبيل الغزو المذكور، بطلبه توقيع معاهدة عدم تدخل أيِّ من الدولتين بشؤون الدولة الأخرى الداخلية.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعوية فلم تكن هناك ادعاءات عراقية بتبعيتها، أو بتعبية جزء منها، للعراق لا في ظل الحكم الملكي في هذا القطر ولا في عهود الأنظمة الجمهورية المتعاقبة. وإذا أضيف إلى هذا احتمال إدراك صدام لإمكانات المملكة؛ معنوياً ومادياً وعمقاً جغرافياً ، ترجَّح أنه لم يكن ينوي احتلالها أو احتلال منطقة من مناطقها، على أنه وجد
من أظهره بأنه كان يعتزم غزوها. ثم وجد للسبب الذي ذكره الدكتور عبدالله الفوزان من أظهر مجيء القوات الأمريكية إليها على أنه للدفاع عنها مع أنها جاءت كما أعلن قادة أمريكا حينذاك للمساعدة في إخراج جيش صدام من الكويت.
وإذا رجع المرء إلى ما سبق تلك الحادثة الكارثة وجد أنه قد كان من نتائج حرب رمضان، عام 1393ه؛ بين العرب والصهاينة أن تبلور موقف عربي حازم؛ في طليعة من قام به قيادة بلادنا. ومما أدَّى إليه ذلك الموقف إنصاف نسبي للدول المنتجة للبترول وفي مقدمتها دول الخليج بتحسن أسعاره، وكان هذا مما جعل أمريكا صاحبة القسط الأوفر من المصالح في المنطقة تخطط لمواجهة أي تحرك يمكن أن يؤثر سلباً على هذه المصالح، ومن هنا بدأت تدرب ما سمي بقوات التدخل السريع، وتركز ذلك التدريب على كيفية التعامل مع أرضية مثل أرضية الخليج وصحراء الجزيرة العربية. وأصبحت الاستعدادات جاهزة تنتظر الفرصة المناسبة. وكان ما ارتكبه صدام من عمل إجرامي غبي باحتلاله الكويت الفرصة المناسبة المنتظرة، والمسند المعلن لمجيء القوات الأمريكية إلى المنطقة.
وإذا كانت المحافظة على المصالح الأمريكية في المنطقة وربما زيادة ترسّخها دافعاً جوهرياً واضحاً لمجيء قوات أمريكا فإن هناك دافعاً آخر له أهميته، وإن لم يعطه الإعلام حقه من التناول والمناقشة. فمن العلوم أن العلاقات الوطيدة بين حكومات أمريكا المتعاقبة والصهاينة، قبل قيام دولتهم في فلسطين وبعده، كانت تزداد رسوخاً مع مرور الأيام. وكان الجسر الجويّ المباشر الذي أقامته أمريكا لمد الصهاينة بالطيارين والأسلحة الجديدة المتطورة عندما لاحت بوادر انتصار العرب في حرب رمضان من أكبر الأدلة على تفاني المسؤولين الأمريكيين في الوقوف مع الصهاينة المغتصبين. فما الذي حدث بعد ذلك.
كان مما حدث أن قامت الثورة الإسلامية في إيران ليجيء من بين ثمارها بالنسبة لفلسطين إزالة حكم الشاه الذي كانت علاقاته بدولة الصهاينة قوية متينة، وإحلال ممثلي الثورة الفلسطينية محل سفارة أولئك الصهاينة في طهران. وإذا كان ذلك مؤلماً للصهيونيين فإنه كان حتماً مؤلماً لحليفتهم الدولة الأمريكية، ثم حدث ما حدث من حرب مؤسفة بين العراق وإيران، وخرجت العراق من تلك الحرب بخبرة عسكرية كبيرة، وأصبح لديها جيش قوي جداً؛ عدداً وعدة وتدريباً حياً، وإضافة إلى ذلك حققت تقدماً كبيراً في مجال التصنيع الحربي وما كانت دولة الصهاينة بالدولة التي لا تقدر الأمور قدرها. وإذا كانت قد نجحت في ضرب المفاعل الذي بدأت العراق ببنائه فإن ذلك لم يثن هذا القطر عن عزمه على تطوير قدراته في التصنيع الحربي حتى أصبح كما اعترف وزير خارجية أمريكا، بيكر، في مذكراته يمثل التهديد الاستراتيجي لدولة إسرائيل. وربما كان الخوف من قوة الجيش العراقي؛ عدداً وتسليحاً وتدريباً، غير مقتصر على وجود هذه القوة فحسب؛ بل من احتمال أن تتغير القيادة العراقية، وتأتي قيادة حكيمة جادة في كبح جماح الصهاينة العدواني. وما دام هذا هو الوضع فإن من الواضح أن القضاء على قوة العراق العسكرية المهددة استراتيجيا للدولة الصهيونية حليفة أمريكا الاستراتيجية كان هدفاً مهماً للأمريكيين تماماً كما كان للصهاينة المحتلين لفلسطين. وكان غزو صدام للكويت الفرصة التي أتاحت لهؤلاء القضاء على قوة جيشه والبنية الأساسية لشعبه. وإذا كانت براقش القديمة قد جنت على نفسها فإن براقش الجديدة لم تقتصر جنايتها على نفسها؛ بل امتدت إلى أمتها كلها؛ وذلك بإعطائها الفرصة لأعداء هذه الأمة لتنفيذ مآربهم.
|