Saturday 9th February,200210726العددالسبت 26 ,ذو القعدة 1422

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ياسر وسامر طفلان شقيقان وشهيدان
والدتهما: زرعوا الحزن في قلوبنا

  * كتب.. نائل نخلة رام الله:
39 يوما فقط، فصلن نكبتين حقيقيتين المتا بعائلة الحاج علي كسبة، ساكن مخيم قلنديا، طفلاه ياسر «11 عاما» وسامر «15 عاما» كان لهما رصاص الاحتلال بالمرصاد، الاول والثاني استشهدا بعيارين معدنيين.
قصة درامية لأسرة فلسطينية، تحمل في فصولها الكثير من المعاني، اولها مدى الاجرام الصهيوني بحق ابناء الشعب الفلسطيني، ففي اليوم الذي تستعد عائلة كسبة احياء ذكرى مرور اربعين يوماً على استشهاد ابنهم ياسر، تفجع بنبأ استشهاد ابنها الثاني سامر.كما انها تعكس حجم المعاناة والألم الذي تعيشه الأسر الفلسطينية، فجزء منها فقد معيلها او فلذات اكبادها، وآخر يقبع ابناؤها في غياهب سجون الاحتلال، او دمرت منازلها ولجأت الى خيمة هي الاخرى اشتعلت فيها النيران فاحترق بنيرانها الاطفال.
علي كسبة، الذي طارده الاحتلال سنين طويلة، زادت على العشر سنوات لنشاطه في العمل المقاوم ضد الاحتلال، فسجن وجرح وكادت رصاصة اصيب بها في انتفاضة عام 87 ان تودي بحياته.
«كان يجب علي ان انتبه الى اسرتي، بقناعة ان الاجيال الفلسطينية تتوارث المقاومة والدفاع عن الوطن والعرض والمقدسات كما تتوارث العادات والقيم والاخلاق، الا ان الاحتلال لاحقني الى عقر داري وخطف فلذات كبدي».
هرب مع عائلته ولكن..
ومع اندلاع انتفاضة الاقصى، كان على يقين ان ابناءه في الخطوط الامامية للمواجهات، فاصيب بكره ثائر، عيار معدني استقر في الرأس، خضع لعلاج مكثف في المستشفيات بالضفة الغربية، قبل ان يتم نقله الى احد المستشفيات في الاردن لخطورة حالته.
كانت فرصتي، يقول ابو الجريح، ليصحب معه اسرته، ويقيم هناك لمدة ثلاثة شهور، ليبعد اطفاله عن المواجهات، على أمل ان تهدأ الاوضاع، ولكن تواصل اجيج الانتفاضة، فقرر العودة بعد ان شفي ابنه تماما.
لم تتوقف محاولات الوالد اقناع ابنائه ان يبتعدوا عن مناطق الاحتكاك مع جنود الاحتلال، او على الاقل ان ارادوا المشاركة في المواجهات لايعرضوا انفسهم للخطر، ولكن دون فائدة.
تامر «16 عاما» وبعد خمسة شهور من اصابة شقيقه الاكبر، اصيب بعيار ناري في القدم، كانت الاصابة متوسطة، اخضع لعدة عمليات جراحية، ومنَّ الله عليه بالشفاء.
16/12/2001م، كانت اسرة الكسبة «ثائر، تامر، سامر، ياسر، عمر» مع والديهم والتي تسكن في بيت متواضع، وسط مخيم قلنديا للاجئين، تجهز آخر مائدة افطار لآخر يوم من شهر رمضان المبارك، قبل ان يصلها نبأ اصابة ابنها ياسر ، 11 عاما.
تفاجأت ام ياسر بالخبر، وعلى حد علمها تركت ابنها داخل غرفته قبل ان تدخل الى المطبخ لتجهز مائدة الافطار، الا انه غافلها وعاد الى ساحة المواجهات في محيط مطار قلنديا.
وتتابع والدته «عاد ياسر من مدرسته، وخرجت من البيت بدون ان يتحدث بكلمة واحدة، اخبرت والده بذلك، توجه الى حاجز قلنديا واحضره، حاولت ان اشغله بملابس العيد التي اشتريتها له، لكنني لم اجد على وجهه فرحة الاطفال بالعيد».
تركوا خلفهم فطورهم، وعلى عجل، وصلوا الى مستشفى رام الله الحكومي، حيث نقل ابنهم المصاب، وكانت المفاجأة.
«اختار الله ابنك شهيدا» بعد ان تردد الطبيب المناوب في المستشفى إخبار الاب، ولكن لامفر من ذلك..
«حزن حزنا شديدا على ابنه ياسر» يقول احد اقربائه، فياسر اكثر اخوته ذكاء، وحيوية، تكاد لاتفارقه الابتسامة، فهو الأقرب والأحب الى قلب ابيه من دون اشقائه الاربعة.
لملم الأب جراحه وآلمه وواصل حياته، «هي الدنيا، بقسوتها، وحلاوتها، ومرها لابد من مواصلة حياتنا» كلام امتزجت به قطرات الدموع التي اندفعت من عينيه اللتين ارهقهما القلق والتعب.
ظن ان هذا يكفي، سقط له شهيد، ومن قبله اصيب اثنان من ابنائه، وهو قبل ان يرزقه الله بهم، ذابت سني شبابه على قضبان السجن وشبك الزنزانة.
بالرغم من الفراغ الذي تركه ياسر على العائلة، وترك فراغا كبيرا بين اشقائه ووالديه، الا ان العائلة واصلت حياتها، وحاولت تجاوز هذا المصاب الجلل التي راح ضحيتها احد اطفالها.
وتكريما للشهيد الطفل ياسر، قرر ابناء مخيم قلنديا وبمشاركة زملائه في مدرسة الوكالة اقامة احتفال تأبيني كبير بمرور اربعين يوماً على استشهاده، طبعت بوسترات حملت صورة الشهيد وعلقت على جدران وفي زقاق المخيم، واقيمت منصة ضخمة في ساحة المخيم الوحيدة لاقامة الاحتفال.
25/1/2002م، الساعة الثانية بعد ظهر الجمعة، في هذا الوقت بالتحديد، عندما فرغ اصدقاء وشباب مخيم قلنديا من استعداداتهم لتأبين ابنهم وزميلهم، كان الاف المتظاهرين في رام الله يشتبكون مع جنود الاحتلال المتمركزين بجانب مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكان من بينهم احد اشقاء الشهيد ياسر والذي يكبره بأربع سنوات.
نقل احد اصدقاء الشهيد سامر انهم حاولوا مرارا منعه من الوصول الى منطقة الاحتكاك، الاسرائيلية الفلسطينية، بالقرب من مقر الرئيس الفلسطيني، شمال رام الله، الا انه كان يرفض بشدة.
وكان يرد عليهم بالقول: اخي ياسر استشهد وهو يتسلق الجدار المحيط بمدرج مطار قلنديا المعطل منذ سنوات ليقذف الحراس بالحجارة ولم يخف منهم، وهو اصغر منه، كيف تطلبون مني ان ارجع الى الخلف؟؟.
احمد فايز، رفيق سامر «15 عاما» وشقيق الشهيد، حاول ان يمنعه ثلاث مرات من التوجه الى المواجهات ولكن دون فائدة.
ويضيف فايز «منعته بالقوة، واحيانا كنت اضربه لاجبره على العودة الى البيت او حتى على الاقل عدم التقدم كثيرا عندما كان يرمي جنود الاحتلال المتحصنين بدباباتهم بالحجارة الا انه مايلبث ان يغادر حتى يعود».
استمرت المواجهات في ذلك اليوم لاكثر من ثلاث ساعات، كان سامر يحمل علم الوطن، ويرتدي بدلة تحمل الوان علم فلسطين، لم يكن يخشى من الدبابة، التقطته عدسات المصورين وهو يقف امام الدبابة ويقذفها بالحجارة بلا خوف.
ويقول صديقه احمد فايز وهو اول من شاهد سامر عندما اصيب، اطل جندي برأسه من داخل الدبابة، وصوب سلاحه صوب سامر الذي كان يقف امامه، فاطلق عيارا معدنيا استقر في رأسه واسقطه ارضا.
ويتابع فايز وقد بدا على وجهه الحزن وهو يستعيد تلك اللحظات والدقائق التي عاشها لآخر مرة مع صديقه الشجاع «اول ما اصيب، كبَّر الله، ثم بدأ يتشهد ويقول «لا إله الا الله، محمد رسول الله» قبل ان يتوقف عن الكلام وتحمله سيارة اسعاف الى مستشفى رام الله الذي اعلن بعد ساعات عن استشهاده متأثراً بجراحه.
تجمع الآلاف من ابناء مخيم قلنديا وكل من عرف قصة هذه العائلة الفلسطينية التي عاشت ويلات الاحتلال وذاقت مرارة الألم ألف مرة، وبدت على وجوههم الحيرة والغضب والألم.
وسط هذه الجموع، وأمام البوابة الخلفية لمستشفى رام الله حيث ثلاجة الموتى، شق شخص يترنح في مشيته شملة ويمنة، لم تعد رجلاه قادرتين على حمل جسده، وبمساعدة عجوز في الستين من عمره، تأبط ذراع والد الشهيد الثاني من ابنائه علي كسبة وهو يردد قول الله تعالى «صبر جميل والله المستعان».
امام الحاح واصرار ابي ثائر على القاء نظرة الوداع الاخير على ولد الشهيد فتح احد الممرضين باب الثلاجة وسحب الدرج الثاني منها، ولحظة ظهور الفتى سامر الملائكي، انفجر الأب من البكاء حتى الصراخ.. ولم يعد احد قادر ممن راقبوا هذا المشهد بكل تفاصيله على حبس دموعه.
..واخذ يلثم بلا وعي منه وجه فلذة كبده ويشم رائحته جرحه الشاهد امام الله وملائكته ورسله على بشاعة الاحتلال وبشاعة جرائمه.
وما كاد الحاضرون يهدئوا من روع الاب حتى شق صراخ الام الثكلى مشهد الصمت المخيم على باحة المستشفى، صراخ الام المكلومة بابنيها ليس ككل الصراخ وبكاؤها ليس ككل البكاء.
صراخ الام ونحيبها ابكى كل من هناك، وفي تلك اللحظة تقاسم الرجال والنساء دموع الحزن والالم على هذه المشاهد التي لايحب العالم ان يراها او يسمع بها، لأنه ليس له سوى عين واحدة هي عين امريكا واسرائيل!!
المشهد الأخير كان مؤلماً ايضا، وكأن كل حركة ونظرة ولمسة وكلمة تحولت الى مشهد بحد ذاته يجسد المعاناة والعذاب والقهر، عندما سارت حشود المواطنين امام المستشفى لاعادة اسرة الشهيد الى منزلها في المخيم، اخذت الام التي بللت الدموع منديلها الابيض حد التشبع، للبقاء على مقربة من الثلاجة التي تحتضن فلذة كبدها سامر.
ولم يجد القائمون على ترتيب مراسم تشيع جنازة الشهيد ان يقرروا مكان دفن سامر، انه بجوار قبر اخيه الذي سبقه باربعين يوما، واصر على ان تكون مشاركته من نوع خاص باربعينية شقيقه الشهيد.
سامر وقبل يوم واحد على استشهاده طلب من اصدقائه ان يلفوا نعشه بعلم فلسطين، علم الوطن الغالي، وان تعلق صورته على مأذنة مسجد المخيم، لترفرف روحه مع صوت الاذان في سماء فلسطين خمس مرات كل يوم.
سامر وياسر، الشقيقان، الشهيدان، كتبا على جدران غرفتهما قبل ان يستشهدا:


أماه لا تبكي عليَّ اذا سقطت ممدا
فالموت لا يخيفني ومنايَ ان استشهدا

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىmis@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved