1/1 لكيلا نعوِّم القول أو نعممه على شاكلة الآخذين من كل شيء بطرف، نرى أنه وتمشياً مع المنهجية العلمية الدقيقة من الضروري تقصي الدلالات المتعددة لمفردات العنوان، وتعقب تحولاتها المصطلحية، وتقصي مراحلها التاريخية، وتعدد حقولها المعرفية. ذلك أن تأطير المعلومة من خلال تحريرها معرفياً كالأطر على الحق، كلاهما مطلب حضاري. ونحن هنا أمام أربع مفردات، بمعرفة مدلولاتها الوضعية والاصطلاحية نستطيع أن نتخذ الطريق القاصد إلى معطياتها ومقتضياتها والتعامل معها تعاملاً معرفياً لا يشوبه افتعال ولا انفعال، ومفردات العنوان هي:
«الإبداع» و «الأدب» و «الحد» و «الأفق»، وإشكالياتها المتأبية ليست في الدلالة، ولكنها في المفهوم، وفي المقتضى، وفي التصور. والمصطلحات المراوغة تقي مدعيها إقامة الحجة، وإن كانت مأخوذة بمقاصد الحضارة المنتجة لها، ومع ذلك فلا بد من العودة إلى درجة الصفر في البحث عن الدلالة، والانطلاق منها والتحسس عن التطورات الدلالية لها عبر سياقاتها التاريخية. وإذ تكون لكل كلمة منها دلالاتها الوضعية المتأثرة بالتطور الحضاري. ولها مقتضياتها المصطلحية المتأثرة باختلاف المفاهيم، ولها استعمالاتها المجازية: مفردة كانت أو مضافة أو مركبة، إذ أن بناءها في نسق تعبيري تنشأ عنه علائق جديدة، تتجاوز دلالة أي مفردة مستقلة أو آخذة بسياق مغاير: أسلوبياً أو ثقافياً أو تاريخياً، ولكنها مع تعدد السياقات والأنساق تحتفظ بقدر كبير من مدلولها الوضعي والاصطلاحي، والدلالتان منارتا هداية لكل باحث عن دقة المعلومة وحدود الموضوع.
2/1 ف«الأدب» بوصفه محور الحديث، وجماع أمره، أخص من الإبداع على إطلاقه، والإبداع يعني: الإنشاء على غير مثال، وهو مع الخالق على الحقيقة، ومع المخلوق على المجاز، لأن التخيل البشري استرجاعي، ومن ثم فإن القول بالإبداع تجوزاً، وقديماً قال الشاعر الجاهلي:
ما ترانا نقول إلا معاراً أو معادا من قولنا مكرورا |
ويقول: هل غادر الشعراء من متردم
والأدب في مجمله إبداع قولي، وإذ يكون الإبداع: قولاً وفعلاً، فإن الإبداع القولي بعض مفردات الإبداع على إطلاقه، وهو مؤشر فعل أو قول، ف«الرسام» و«النحات» و«الموسيقي» و«الراقص» و«المغني» و«الشاعر» و«القاص» و«الممثل» كل أولئك يوصفون بالمبدعين والفنانين. ولكل واحد منهم ضوابط فنِّه، وحدود مجاله، ومقومات نوعه الإبداعي، وآفاق سبحاته.
ومتى جهل المعنيون شيئا من ذلك انفلت العقد، وعمت الفوضى، وعُمِّيت الأمور، وفُقِدت المرجعية التي يُرَدُّ إليها عند الاختلاف. وذلك بعض أدواء المشاهد القائمة، وعامل فوضويتها. ولكون الأدب إبداعاً قولياً في شقيه: السردي والشعري، فإنه أخص من مطلق القول المتسع لسائر العلوم: البحتة والإنسانية والشرعية. ولأن الشعر ذو خصوصية شكلية، مغرقة في الغنائية، عصية في الشرط الشكلي، دقيقة في البناء اللغوي، فإنه يستأثر بأهمية لا ترقى إليها مفردات الإبداع القولي، كالقصة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية والمقالة، والشعر يستأثر بالتألق حين يكون الشاعر موهوباً، عميق الثقافة، صادق التجربة. ولما كان الإبداع السردي أىسر مرتقى، فقد كثر أدعياؤه ومقتدروه، وقل موهوبوه ومبدعوه، وطغى افتعاله وانفعاله، وندت عن الاستقامة مواقفه وتجاربه، وغُمِرت مشاهد الأدب بفيوض من القول الفارغ واللغة الرديئة والكلام الكثير الذي لا يقول شيئاً، حتى كسر الحدُّ ولوث الأفق، وحتى قيل ب«زمن الرواية» لكثرة الثلاثيات والخماسيات والمجاميع القصصية واستفاضة الدراسات وتتابع القضايا والظواهر الأسلوبية والفنية واللغوية التي لا تكون إلا في الوهم، وعلى يد السواد الأعظم من الروائيين والقصاص والنقاد سيئت وجوه الفن الرفيع، ودنست المقدسات الطاهرة، وهتكت الأخلاقيات المصونة، وأنسن الإله، وسئل عما يفعل، وعورضت الأقدار،ورفضت الأوامر، وسفهت الأحلام، وكلما تمعرت وجوه الوجلين تذرع المقترفون والمعذرون بحرية القول وحقوق الفن وحتمية التجديد، ولم يرق مما كتب من أعمال إلى سدة الفن الخالد إلا الأقل من الإبداعات الروائية، التي كتبها موهوبون متمكنون من لغتهم وفنهم وثقافتهم وصدق تجاربهم. ومما يلفت النظر مفارقة المقومات، فمتى تألق الفن، وأشرقت اللغة، خبث المحتوى، ومتى شرف المعنى تعثر الفن وتلعثمت اللغة، وندر اجتماع الأشراف: شرف اللفظ والفن والدلالة، ومن ثم وجد المفسدون في أرض الفن والمرجفون في مدينة الإبداع هذه المفارقة سبيلاً قاصداً لشرعنة الفجور، كما وجدوها مبرراً لتعطيل الحدود وتلويث الآفاق. والمؤسف إن الشهرة والحضور واكبا المتمردين على القيم كافة: قيم الفن واللغة والأخلاق، وجاء أساطين النقد كالمعذرين ظهيراً للمبدعين الذين لم يرعوا في المشاهد إلاً ولا ذمة، وكل ذلك الفيض من الانتهاكات يتذرع بالحرية التي لم تفهم على وجهها. ولأن ضوابط الشعر الفنية دقيقة وشاقة وعصية، سواء تعلقت بلغة النص أو بفنياته أو بدلالاته، فقد وجد فيه النقاد فضاءات رحبة، حتى لقد طغى سلطانه وكثر أعوانه، واستأثر بالشاهد والمثل والدرس. ولأنه مجال علماء اللغة والنحو والصرف والبلاغة والتفسير فقد احتشم الشعراء المعول على شعرهم، ولم يسفوا، ولا عبرة بمن ندَّ من الشعراء الشعوبيين عن جادة الصواب، فانحراف أولئك ذليل محدود.ولما زوحم الشعر بوسائل الإعلام: المقروء والمسموع والمرئي، وشغل الناس بما جد من فنون القول بما هيئ لهم من وسائل تسلية وترفيه، تقلصت مساحة الشعر، وغلبت السرديات عليه، وتبع ذلك ضعف سلطانه، وما أن تعددت قنوات الاتصال بالجماهير هبطت الفنيات، وضاعت القيم، وتقحم المشاهد من لا خلاق له، وأصبح الذابون عن الفضيلة نشزا في سياق الإبداع والنقد، ولقي حماة الأصالة أذى كثيراً من تجاوزات المنتهكين لحرمة التراث، فكانت الأذية مضاعفة، لأنها تمس الأخلاق والتراث معاً، والذين تجاوزوا حدود الفن والقيم شايعهم من تجاوز حدود اللغة، ليحتل «الشعر الأمي» صدارة المشاهد وسدة الإعلام مزاحماً بمنكبه الضعيف وجناحه القصير وبمؤازرة المنتفعين من حملة الأقلام «الشعر الفصيح» الذي اعتورته الرذيلة والعامية والضعف العام، ومن ثم ضاعت حدود الفن والقيم واللغة.
3/1 و «الإبداع الأدبي» تنتابه إشكاليات متعددة، لاختلاف المفاهيم والتصورات، ولتعدد الجغرافيا الفكرية والدينية، والنقاد المعذّرون والمعارضون، والمؤصلون والمشرعون يقعون تحت تأثيرات متعددة، تدفع بهم إلى الصدام، ولا تحملهم على التعاذر والالتقاء على كلمة سواء، يحترمون معها الضوابط الأخلاقية والقيم الفنية والمعيارية اللغوية، ويمكنون النص الإبداعي من إقامة اللسان واستقامة الخلق على حد:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
بناةُ المعالي كيف تبنى المكارم
وحين نتحدث عن «الحدود» و«الآفاق» نعرض أنفسنا لجدلية حادة النبرة، وبخاصة حين وقع الأدب في مضائع الالتزام الأيديولوجي المسيس، واستزلته دعوات الحيرة الفوضوية في مجال القيم الفنية والأخلاقية والفكرية والسياسة، و«الإبداع الأدبي» مادته اللغة وآفاقه التجربة الإنسانية: فردية أو جماعية، ولكل من «الإبداع» و«الأدب» و«اللغة» و«الفن» و«التجربة» حدود وآفاق تواضعت عليها النخب وتوارثتها الأجيال، وسلم لها أفراد المجتمع الواحد المتجانس في لغته وجنسه وجغرافياته: الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية معولة على مرجعية نصية أو عرفية، وتلك المواضعات منها الثابت والمتحول، وهوامش التحول تمكن من التحرف المتواصل للتجديد لمواكبة الحياة المستجدة، وكل حضارة تنطوي على ثوابت ومتغيرات، والإشكالية في تحديد الثابت والمتحول، ومن تصور ان التحفظ على المقترفات عقبة في طريق التجديد، فقد تعمد التحريف والتزييف، ومن صدّق هذه الدعاوى فهو خب يخدعه الخب، فالسكونية والماضوية ليستا سمة الأخلاقيين ولا خلق المؤصلين، كما ان الاستشراف المستقبلي والتجديد الحقيقي ليسا سمة المتهتكين والمتمردين على الضوابط والحدود، واختلاف المفاهيم كالاختلاف حول الثابت والمتحول، كلاهما مجال صراع مستحكم وتنازع مضر بالمصلحة العليا للأمة، والأخطر من كل ذلك الاختلاف حول المرجعية، ومتى اختلف الناس حول المرجعية وقعت الواقعة إذ ان الاتفاق عليها يحصر الخلاف في وجوه التأويل، وفي تعدد الدلالات، والسلف من العلماء أدركوا ان النص حمَّال أوجه، وقبلوا الاختلاف على ضوئه وعمدوا إلى وضع الأصول والقواعد في استقرار النصوص.
ولكي نستبين الوعي الحضاري للعملية الإبداعية لا بد ان نعرف الشرط الفني، والمعيار اللغوي، والضابط الأخلاقي، والمقتضى العقدي، والمفهوم المصطلحي، وحدود الثبات والتحول، ونعرف إلى جانب ذلك القدر المتاح من الضرورة وشرعية التغيير في الشرط، وإمكانيات المخول للتغيير، وحقه في ذلك. إذ لا يجوز تخويل حق التغيير لكل من وجد في نفسه الرغبة في ذلك، وإنما هو لمن يقدرون للضرورة قدرها، ويحفظون حق الحضارة التي ينتمون إليها، ولا بد مع هذا من ضوابط يحترمها الجميع، ويسلمون لها، ولا بد من مساحات محدودة لحرية القول وحرية التغيير، لمواكبة الحياة المستجدة، ولا بد ان يكون كل شيء بمقدار، فالانغلاق على الذات، والانفتاح على الغير، حين لا يكونان محسوبين بكل دقة يستويان في العائد السلبي، والحياة: مادة ومعنى قائمة على النظام، وسنن الله لا تبدل ولا تحول، لأنها نظام الكون الحسي والمعنوي، والنظام ضابط يحد من فوضوية التصرف وهمجية الفعل، وضياع الأمة وهلاكها يستشريان حين يسود الجهلة، وحين لا تحترم ضوابط الفنون والعلوم، وحين لا يخضع الجميع لما تواضعوا عليه من القيم.
والأدعياء الذين امتلكوا حق القول في مصائر الأمة وكافة أمورها باسم حرية التعبير وتكافؤ الفرص، اطفأوا منارات الفن، حتى لقد انطمست حدوده، وادلهمت آفاقه، وأصبح كل عابث يحيل على حقه في الحرية الفوضوية وعلى حق التعبير عن الرأي، والحرية لا بد ان تكون منضبطة، ومرتبطة بالمواضعات التي تحمي حقوق الغير: حسية أو معنوية، فالفن تحميه ضوابطه، واللغة تحميها قواعدها، والقيم تحميها الأوامر والنواهي الشرعية، والحقوق الخاصة تحميها القوانين، والحقوق العامة تحميها الدساتير، والحرية والحدُّ صنوان، فغياب أحدهما مؤذن بفساد الأمة وضياع مثمناتها، والضابط هو «الحد» سواء تعلق بلغة النص أو بمضمونه أو بفنياته، ولكل عنصر شرطه، والتعامل معه دون فهم دقيق لنظامه ومهارة متميزة لفك شفراته واستيعاب جيد لممكنه ومستحيله ومباحه ومحظوره ضرب في فجاج التيه، وذلك ما نشهده عند دعاة الانقطاع المعرفي، واستمرارية التغيير، وضرب الثوابت والسوائد دون مساءلة أو تقويم.
4/1 وكل شيء في الوجود له حده الذي لا يتحقق وجوده إلا بقيامه واحترامه و«الحدود» واحدها «حدٌّ» وهو في اللغة: المنع، والفصل بين شيئين، ومنتهى كل شيء حده، وهو في الفلسفة: ما دل على ماهية الشيء، والحد التام يقتضي الجمع والمنع كالمصطلح، ويقتضي الاطراد، وهو التلازم بين الحد والمحدود، وليس من مقتضيات الحرية تجاوز الحد، فالحد مطلب رئيس من مطالب الحرية، والمشاهد الفكرية والأدبية تقترب من حافة الفوضية، لأن الحداثة اطلقت أيدي ذويها من مبدعين ونقاد: مطبقين ومنظرين، فكسر الحد، وعطلت القواعد، ورفضت السلطة: الحسية والمعنوية، ولهذا لم يعد هناك حد متفق عليه، حتى القول في أنواع الفنون لم يعد مقبولاً، وقد طرح مصطلح «الكتابة» لكيلا يكون هناك تمايز بين فنون القول، وليس من مصلحة أي حضارة ألا يكون لأدائها القولي «حد» و«أفق» يلتزمهما المبدعون، وينافح عنهما النقاد.
وما من حضارة انتقضت عراها عروة عروة إلا ضاع أهلها، واستعبد أفرادها، وأصبحت تركة موروثة لحضارة أخرى، والحد في الإبداع القولي يكون للغة النص، وهو معيارها، ويكون للنوع الفني، وهو شرطه، ويكون للمضمون، وهو ضابطه المتعدد: عقديا وأخلاقياً وسياسياً واجتماعياً، والحد في المضامين لا يقل أهمية عن سائر الحدود، ولا سيما بعد ان طغت السرديات، واتسعت للقضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقدية، ومن تعقب التجاوزات في الفكر والأخلاق راعته الترديات الأخلاقية والفكرية، وإذا كنا نجد في التراث مثل ذلك فإنه تجاوز محدود ومقموع، وليس له ناصر يشرعن فسقه وفجوره مثلما هو حاصل في مشاهد العصر الحديث.
|