Sunday 27th January,200210713العددالأحد 13 ,ذو القعدة 1422

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

نجم أفل
د. محمد بن سعد الشويعر

في السماء نجوم جعلها الله زينة للسماء، ويهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر، وفي الأرض نجوم، هم العلماء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ورثة الأنبياء، لأن الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه.. أخذه بحقه.. وحق العلم تبليغه، فهم زينة الأرض.
وهم نجوم في الأرض، يسترشد بهم الناس، ويعرفون أمور دينهم ودنياهم، بما يأخذونه عنهم، وبما يبسطونه للناس من تعليم وارشاد، وتوجيه ونصيحة، وبما يتحلون به من صفات هي حلية العلم، ووقار العلماء.. والقدوة الصالحة هي جزء من تبليغ العلماء وما أخذوه من علم لأنها أمكن في النفوس، وأوضح في المجتمع.
والشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، واحد من العلماء الذين فقدتهم الأمة، وخسرهم العارفون بمكانته وفضله.
فقد كان رحمه الله مثال العالم بصفاته ووقاره.. ونموذج الناصح الباذل من علمه برفق ولين.. يأنس بقربه العامي، والفرد المتوسط والعادي في المجتمع، لدماثة خلقه، وبسطة جناح الرفق والتودد لا لحاجة يريدها منهم، أو لمنفعة تتحقق من وراء ذلك.
ولكنها صفات العلماء التي تطبعت نفسه عليها، منذ كان طالباً في دار التوحيد، سنة تأسيسها في الطائف عام 1364ه، وعرف بهذا الخلق، الذي جبلت عليه نفسه صغيراً طبعاً غير تطبع، وخلقاً لا تصنع فيه في كلية الشريعة، التي تخرج منها عام 1372ه ثم في مسيرته العملية حتى وافاه الأجل المحتوم 10/11/1422ه. مما جعل أنظار العلماء في المملكة تتجه إليه، فيرشح للقضاء ملازماً بمكة لمدة عام، ثم قاضياً لمدة عام آخر.. ثم بعد إيجاد ديوان المظالم يقع النظر عليه، لما برز من فضله وتميز شخصيته ، ليكون محققاً قضائيا.
ويشاء الله أن تعلو همته، وتبرز مكانته ليكون في مناصب أخرى كبيرة، ومنها رئاسته لديوان المظالم.. فكان نعم المخلص، حيث يرى الأهمية في متابعة الأعمال وانجازها، وطالما رأيته يحمل أثقالاً من المعاملات، التي يرى أهمية استملائها في المنزل، وفي هدأة الليل حيث يخلد الناس للراحة، وتهدأ الحركة.. وهو يغالب النوم، بل يطرده بالقوة، لانشغاله بما كان في ذاكرته من هموم أصحاب القضايا المعرضة على الديوان، وكل واحدة منها تحتاج إلى جهة ومراجعة واستملاء.. ولرغبته في انجاز الأعمال المناطة به.
ذلك أنه رحمه الله لا يرى تأجيل عمل اليوم إلى الغد، لأن لكل يوم عمله، وخاصة في الميادين المتعلقة بالناس، وقضاياهم.. حيث يتفاعل معها، ويشعر بأهميتها، ويضع أمام عينيه اعطاء الحق لصاحبه، مقروناً بأدلته الشرعية المقنعة.. سواء كان للآخذ أو المأخوذ منه.
أذكر من زياراتي له في ديوان المظالم أن أصحاب حقوق جاؤوا يناقشونه فيما يتعلق بقضية معروضة على الديوان.. فأفسح لهم صدره، وأصغى أذنيه، ليسمع ما يقولون، وما أكثر ما قالوا، ثم بدأ يشرح لهم مجريات المعاملة، وما لديه عنها منذ بدأت حتى انتهت والرأي الذي اتخذ وأنه مستند على أمر شرعي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبدأ يوضح لهم الأدلة.. حتى خرجوا من عنده مقتنعين، وبعدما جاؤوا مكتبه، قال لي: إن لصاحب الحق مقالاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وانني أحرص على دراسة القضايا دراسة مستفيضة، حتى ألم بكل دقيقة وجليلة فيها.. وان وجدت فيها مدخلاً، أعدتها بالملاحظة للقسم الذي أعطى عنها الرأي حتى يراجع نفسه في ذلك.
ولئن كان بمثل هذه الدقة والوعي فيما عرفته عنه في ديوان المظالم، وبحكم العلاقة والمجاورة معه، ومع والده ووالدي رحم الله الجميع في الملز، وفي المناسبات لفترة طويلة.. حتى غيَّر الجميع منازلهم لجهات أخرى في مدينة الرياض مع تطورها.. إلا أن الصلة كانت مستمرة، والرابطة وثيقة.
فقد كان في أعماله في المجلس الأعلى للقضاء، ثم في وزارة العدل، وزيراً لفترتين، إلى جانب مشاركته في المجالس العلمية الشرعية. يمثل الفاهم المدرك.. يستمع أكثر مما يتكلم، لكنه عندما يتكلم فانما بوعي وادراك: شرعياً وقضائياً، ناهيك بالفتوى ومداخلها.. وإلمامه بالقضايا الاجتماعية والادارية.
وهو إن صمت في الاجتماعات وأثناء النقاش، فهو سكون المستملي، وتتبع الحريص على ادراك كل ما يدور، ومع كل متحدث.. وان أخذ دوره للإدلاء، فهو الوعي والادراك، للنظرة البعيدة قبل القريبة.. بفطنة وفراسة.
أما الميدان الذي برز فيه، فهو المجال الأخير لخدماته، في مجلس الشورى: القديم الجديد، قديم بتشكيله، وتكوينه مع بداية الدولة وتأسيسها، وجديد بما أراده له خادم الحرمين الشريفين أدام الله عليه الصحة والعافية، من أمور تعرض عليه، ليعطي فيها هذا المجلس رأياً يجمع بين المطلب الحضاري، والعلم الشرعي الذي هو هدف قيادة هذه البلاد، بحرصهم على تطبيق الشريعة الإسلامية في كل أمر.. فكان الشيخ محمد الجبير رحمه الله رئيس مجلس الشورى خلال تسعة أعوام في نشأته الأخيرة، مثال الرجل الذي يجمع بين نظرة العلماء، وحرصهم على المنهج الشرعي، ومن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبين التفتح على حاجات الأمة في العصر الحاضر، بما يفيد ولا يتعارض مع الأساس الشرعي..
وبانت آثاره، وشهد له العاملون معه، فيما يصدر عنهم من كلمات في تأبينه رحمه الله من باب: اذكروا محاسن موتاكم.. فكانت أصواتا، ونفثات أقلام تشهد بما علمت من سيرة هذا الرجل، وحسن ادارته لجلسات المجلس.. ومواقفه في الخارج في الدعوات والزيارات مع أمم شتى تتباين عقيدة وديناً وطباعاً، عن بيئتنا.. ولكنه رحمه الله يمثل الحكيم الذي يعطي الدواء لكل بدن ما اعتاد.. والمعلم الذي يستجلب تلاميذه بحديثه وطريقة عرضه.. حتى يلتفت الطلاب اليه، ليسمعوا منه، ويستفيدوا مما قال.
فرحم الله الشيخ محمد بن ابراهيم بن جبير رحمة واسعة، وأسكنه الله فسيح جناته فقد كان نجماً أرضياً غاب عن عارفيه، ولكن بقيت محامده تستجلي صحائفها ويعتبر بها المعتبرون.


وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن روى

فلا تجد الا الثناء الحسن من جميع طبقات المجتمع، بل ومن الخارج ممن عرف هذا الرجل، وتحدث معه حيث يأسرهم بلباقته، ويبقي في نفوسهم أثراً.. والناس شهود الله في أرضه.. جعل الله في علمائنا عوضا وخلفاً عما ذهب، ورحم من فارق حياتنا الى الدار الآخرة، وحفظ الله لهذه الأمة قيادتها المخلصة الأمينة على دين الله وشرعه، بما تقوم به من أعمال، وبما تراه من مكانة للعلماء، هي منهم محمدة، وللأمة وفاء، ساروا عليه كابراً بعد كابر.
ولا نقول مع هذه الا ما أمر الله به: «إنا لله وإنا اليه راجعون» له ما أخذ وله ما أبقى، وكل شيء عنده بمقدار.

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الرئيسية]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىmis@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved