| شرفات
مع أفول القرن العشرين تحقق الحلم واحتفل العالم بأول خريطة شبه كاملة للجينات البشرية، دول كبرى وظفت أفذاذ العلماء وملايين الدولارات وسنين طويلة من أجل هذه اللحظة، لحظة اكتشاف الجسد الإنساني وتطوره البيولوجي، ، عدد الخلايا، ، عدد الجينات وتأثيرها، ،
الوصول الى هذه المعرفة يعطي الأمل في علاج امراض مرعبة مثل السرطان، والإيدز، ويجدد الحلم القديم في الإنسان (السوبر) الأكثر قوة وذكاء والأطول عمرا، هل هذا ممكن؟ هذا هو التحدي او الحلم المستحيل، تروج له الافلام السينمائية والبرامج العلمية سواء بسواء، تماما مثلما روج اجدادنا الأقدمون لأسطورة (إكسير الحياة)! هناك فوائد علمية جليلة ومتوقعة، وهناك ايضا مبالغات تجارية ودعائية، ولا نملك ازاء هذا المشروع الضخم إلا ان نتابع عن كثب من خانة المتفرجين، في هذا السياق صدر عن سلسلة عالم المعرفة كتاب جديد ل (مات ريدلي) عنوانه: (الجينوم: السيرة الذاتية للنوع البشري» من ترجمة د، مصطفى إبراهيم فهمي، ليست سيرة ذاتية ادبية، كما أنها ليست مليئة بالطرائف المسلية، انها سيرة شديدة التعقيد والإرباك، ويمكن القول انها اصعب سيرة يمكن ان تكتب على الاطلاق لكن المؤلف مات ريدلي حمل على عاتقه عبء توصيل معلومات معقدة للغاية الى قارئ عام بأسلوب بسيط ومشوق،
وقبل الدخول الى فصول السيرة الذاتية للجينوم هناك العديد من المصطلحات والمعلومات الأولية من الضروري ان يلم بها القارئ قبل ان يوغل في القراءة، فمن المعروف ان عدد كرموسومات النوع البشري (23) وهو عدد لا تعرف له دلالة ما حتى الآن، فهناك كائنات تملك كرموسومات اقل واخرى لديها عدد أكبر، تأمل المؤلف ازواج الكرموسومات ال (23) وما تحمله من جينات تعطي لكل منها شخصيته المميزة ونزعته (الجينية) المتفردة وعلى هذا الاساس قسم فصول الكتاب او السيرة الذاتية الى ثلاثة وعشرين فصلا ورتب الكرموسومات مبتدئا بأكبرها حجما، كما أعطى لكل كرموسوم العنوان الأفضل الذي يعبر عن شخصيته: 1 الحياة، 2 النوع، 3 التاريخ، 4 المصير، 5 البيئة، 6 الذكاء، 7 الغريزة، الصراع، 8 الاهتمام بالذات، 9 المرض، 10 التوتر، 11 الشخصية، 12 تجميع الذات، 13 ما قبل التاريخ، 14 الخلود، 15 الجنس، 16 الذاكرة، 17 الموت، 18 العلاج، 19 الوقاية، 20 السياسة، 21 تحسين النسل، 22 الإرادة الحرة، هذا الترتيب يعني فقط ان كرموسوم رقم 1، اكبر حجما مما يليه وهكذا، اما الكرموسوم الخاص بالنوع (ذكر أو أنثى) (x) أو (Y) فهو لم يحمل رقما، ونظرا لان y اصغر حجما من x تم وضع هذا الكرموسوم في الترتيب السابق بناء على حجم x فجاء موقعه بين الكرموسومين 7 و8،
اختار المؤلف بجانب الترقيم العددي للكرموسومات مجموعة من العناوين الادبية المثيرة، في محاولة منه لرسم الشخصية المميزة لكل كرموسوم وكتابة قصته وتأثيره على حدة، بالطبع ليس من السهل كتابة قصص سلسلة تتسم بالوضوح، فمثلا الحديث عن كرموسوم رقم 1 لا يعني انه أتى أولا، والحديث عن كرموسوم رقم 11 كأنه المختص بتحديد ماهية الشخصية البشرية هو من قبيل المجاز لتقريب الصورة، كما ان الكلام عن جينات معروفة ولها دور معين لا يعني الوصول الى نتائج نهائية او حاسمة بهذا الصدد، فهناك حوالي 60 أو 80 الف جين لم يرصد العلماء منها سوى ثمانية آلاف فقط، وليس من الضروري ان تكون هذه الجينات جميعها فوق الكرموسومات ال 23، فبعضها يعيش داخل نقط صغيرة تسمى (الميتوكوندريا) وربما تحدث اخطاء أثناء (نسخ) الجينات كأن يوجد جين على الكرموسوم الخطأ، ولمزيد من التوضيح، يحوي الجسم البشري ما يقرب من 100 تريليون من الخلايا، معظمها يقل عرضه عن عُشر من الملليمتر، ويوجد في داخل كل خلية بقعة سوداء تسمى النواة، ويوجد داخل النواة مجموعتان كاملتان من الجينوم البشري (باستثناء خلايا الدم الحمراء والبويضات والحيوانات المنوية) تحتوي كل مجموعة أو نسخة على الجينات نفسها، لا تكاد الفروق بين نسخة الأب ونسخة الأم تذكر،
وحتى يستوعب القارئ هذا العالم الدقيق والمعقد يعرض المؤلف مثالا، فالجينوم مثل كتاب يحتوي على ثلاثة وعشرين زوجاً من الكرموسومات (23 فصلاً) وكل فصل (اي كل كرموسوم) يحتوى على آلاف القصص (الجينات) وكل قصة صنعت من عدد من الفقرات (اكسونات) وتقطعها إعلانات (انترونات) والفقرة صنعت من كلمات (كودونات) والكلمة تتكون من حروف (قواعد)، فلنا ان نتخيل ضخامة هذا الكتاب الذي يحتوي على بليون كلمة،
كما يُلاحظ ان سطور هذا الكتاب يمكن قراءتها من اليمين الى اليسار وبعضها يقرأ بالعكس من اليسار الى اليمين، وكل كلمة مكونة عادة من اربعة احرف فقط لا غير (أ، س، ج، ث) اختصارا للأدنين والسيتوزين والجوانين والثيمين، يمتاز هذا الكتاب بخاصيتين مبهرتين فهو يستطيع ان يتحول إلى ماكينة تصوير وينسخ (نسخة) جديدة من نفسه او من النسخة الأصلية، الخاصية الثانية انه يستطيع ان يقرأ نفسه ويترجمها، ، اذا تكلمنا عن الخاصية الاولى (النسخ) فهي تعتمد على الكلمات (القواعد) التي تتكون من الحروف الاربع وتكون عادة في زوجين (أ ث) و(ج س) فلو افترضنا ان الكلمة الاصلية (أ ث ج س) تكون نسختها الجديدة هي (س ج ث أ) وفي نسخة النسخة تكون (أ ث ج س) الى ما لا نهاية وفي العادة يرسم لولب مزدوج للتعبير عن ازواج القواعد، عملية النسخ تتم بدقة لكن هذا لا ينفي حدوث (أخطاء) كأن يسقط احد الحروف الأربعة او تكرر جملة وتحذف أخرى، وهذا ما يسمى بالطفرات الجينية التي قد لا تكون ضارة ولا مفيدة، لكنها (أحيانا) مميتة!! حتى الآن نحن على ضفاف السيرة الذاتية ولم ننزل النهر بعد، ومن الصعب الخوض في تفاصيل علمية دقيقة وتحتاج الى صبر في القراءة وصبر عليها ايضا، يبدأ الفصل الاول بالكلام عن الكرموسوم رقم (1) ويعرض له المؤلف تحت عنوان (الحياة) في محاولة لاكتشاف كيف تكونت الخلية البشرية الأولى ويقر المؤلف بأن الحياة شيء يراوغ التعريف وتتألف من مهارتين هما: القدرة على (النسخ) والقدرة على (خلق نظام) فالاشياء الحية تنتج نسخا تقريبية لنفسها (الارانب تنتج ارانب) وعلاوة على ذلك تأكل العشب وتحوله الى لحم ارانب، اي تبني كيانات منظمة معقدة تسمى الاجساد، مفتاح هاتين المهارتين (النسخ) و(خلق نظام) هو المعلومات او تعليمات تجميع (أرنب جديد) او الشفرات الخاصة التي يكون الارنب بداخلها مشكلا بشكل مسبق في خيوطه الحيوية او مفترضا، يقول المؤلف: دعنا نتخيل نواة بشرية تحت الميكروسكوب، ولنرتب، ان استطعنا الكرموسومات الثلاثة والعشرين حسب ترتيب حجمها، ليكون اكبرها إلى اليسار واصغرها الى اليمين، والآن هيا نركز العدسة المقربة على اكبر كرموسوم، ذلك الذي يسمى بالكرموسوم 1، لأسباب محضة اعتباطية، وكل كرموسوم له ذراع طويلة وذراع قصيرة تفصلهما نقطة ضئيلة تعرف بالسنترومير، اذا امعنا النظر بحرص في الذراع الطويلة للكرموسوم (1) سنجد عليها بالقرب من السنترومير تتابعا من 120 حرفا (الفات وسينات وجيمات وثاءات) تتكرر مرة تلو الاخرى، وبين كل تكرار وآخر يمتد نص اكثر عشوائية، ولكن فقرة الحروف المائة والعشرين تظل تعاود الظهور مثل نغمة مألوفة، ويصل تكرارها كله الى ما يزيد على المائة مرة، ولعل هذه (الفقرة) القصيرة هي أقرب صدى للكلمة الأصلية يمكننا الوصول إليه،
إن هذه الفقرة هي جين صغير، هو فيما يحتمل انشط جين في الجسم البشري، وتداوم حروفها المائة والعشرون على ان تنسخ في خيط قصير،
هذا المقتطف يقترب بنا من جين واحد فقط من حوالي 60 أو 80 الف جين ومن كرموسوم واحد فقط من 23 كرموسوماً، بما يعني ان المشوار مازال طويلا لقراءة هذه السيرة الذاتية التي تتضاعف صفحاتها يوما بعد يوم مع مزيد من البحوث والاكتشاف، بالفعل تيقن العلماء ان الكرموسومات تحوي سر الحياة، ، لكن كيف يكون ذلك؟ هذا هو السؤال الاهم، ، اللغز الذي لم يحل بعد، ويأتي كتاب (الجينوم) لمات ريدلي كمحاولة، ، مجرد محاولة، ، لتلمس إجابة تزيد معرفتنا بوجودنا وبمعجزة الخلق، وتبارك الله أحسن الخالقين حين قال في كتابه الكريم: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)!
|
|
|
|
|