| الاخيــرة
شاء الله جل وعلا أن تمر طفولتي سلسة إلى حد كبير بحمد الله لا من حيث وفرة المعيشة وتهيئة سبل الراحة وسط مجتمع أترابي وقرنائي في البلدة.. فهذا الأمر يعتريه ما يعتري جوانب الحياة في كل مجتمع صغيراً كان أو كبيراً.. غنياً كان أو فقيراً.. مع أن الغنى في ذلك الزمان شيء نسبي.. لا مقارنة بينه وبين متوسط الحال في زماننا اليوم.. فضلاً عن أن يقارن بما يعنيه الغنى حقيقة وهو المال الوفير الذي عَرَّشَ وفرخ في بيوت الكثيرين من الناس هذه الأيام..
وإنما كانت سلاسة طفولتي ناشئة من التربية الحسنة لوالديّ رحمهما الله وأسبغ عليهما رضوانه فقد كانت تربية وسطية تتسم بالحنان المعتدل والتعامل المرن.. فلا ضجيج ولا صراخ عندما تتسم بعض تصرفاتي بما يُحنِقُ أو ينرفز..
ولا أذكر في حياتي كلها أن والدتي رحمها الله قد ضربتني على فعل أو قول يصدران مني، وإنما عتب وتوضيح للخطأ الذي صدر عني، وتوبيخ غير موجع لمرة واحدة ساعة وقوعي في الخطأ، ثم ينتهي الأمر عند ذلك.
أما الوالد رحمه الله فهو كذلك ليس بصخاب ولا مُعَنِّف.. ولكنه أحياناً قليلة وقليلة جداً، يمنحني ضربة أو ضربتين على ظهري لتذكرني ما أخطأت فيه.
ولعل مما لم أنْسسَهُ من ذكريات الطفولة.. وعمري حينذاك ما بين ثلاث إلى أربع سنوات.. أن والدتي أرسلت أختي إلى المطبخ لإحضار عشائي، وكنا في السطح، فلما رأيته، وربما استقللته، وكنا متكئين على جدار (الباحة) أى (المنور) للبيت.. رميت الإناء بما فيه إلى بطن الدار.. أي من فوق طابقين.. ونظرت إلى أمي منتظراً صفعة أو شيئاً من هذا القبيل على فعلتي هذه.. فما كان منها إلا أن قالت لأختي رحمهما الله حوّلي يا نورة، وخذي الأكل وحطيه في معلف البقرة.. والتفَتَتْ إلىَّ.. ولم تزد على «الله يصلحك يا وليدي»..
ومرة طلبت منها أن ترفعني إلى (المُنَيْفيح) وهو سطح الدرج الأعلى.. لأطل على الشارع من هذا الارتفاع الشاهق، يومذاك..
وجدت في هذا السطح الذي لا يستعمل، شيئاً من حاجات الحريم، ومن جملة ذلك (مشط الرأس) فوجدته عريضاً نسبياً.. فرأيت أنه من العدل أن أقسمه بين أمي وأختي.. فرضخته بحصاة وانكسر، وصار مشطين لا مشطاً واحداً. فناديت أمي، فرحاً بهذا الإنجاز العظيم..!
(يَمه وش أبشرك به؟ قالت خير إن شاء الله.. قلت: أحطيت مشطك مشطين قالت: والله ما قصرت.. ولكن الشرهة عليّ ما هيب عليك اللي أرقيك على المنفوح وتكسر مشطي..
وجذبتني وأنزلتني دون أن تمسني يدها بسوء.. [[[
وكانت صحتي في سني عمري الأولي جيدة.. ولكني أصبت بمرض يسميه البدو مرض (العضاة) فتحول روائي ومنظري.. إلى اصفرار.. فأتى الوالد لي بمتطبب بدوي، وهؤلاء هم أطباء ذلك الزمان، فلما عاينني أشار إلى والدي: باكر الصبحية أنا عندكم إن شاء الله.. واللَّمُوا أي جهزوا ويشير بيده إشارة خفت منها ولكني لا أعرف ما هي؟
وفي الصباح أطليت مع الباحة على بطن الدار وإذا نار توقد.. وإذا مخطران (صيخا) حديد يتلمظان جمراً أحمر..
ويطلع أخي الكبير زامل رحمه الله ليحملني إلى هذا الموقع الرهيب.. وصحت بأعلى صوتي وفَرْفَشْتُ للهرب.. ولكن دون جدوى.. غطوا عيوني بثوبي حتى لا أرى هذه الأصياخ الملتهبة وهي تنقش آثارها على مواضع من رأسي.. وظهري..
والحق أنها بحمد الله كانت سبباً مباشراً في استرداد بعض صحتي التي كانت قبلاً.. ولكنها لم تعد كاملة.
رضي الله عن أم المؤمنين عائشة فقد روت: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا رفع من شيء إلا شانه»أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
حقاً إن حنان الوالدين ورفقهما، من غير دلال زائد عن حده، يحقق نتائج إيجابية أكثر من استعمال القسوة والعنف والصراخ.
وهذا أنموذج من التربية في ذلك الزمان سعدنا به، رغم شظف العيش، وقلة ما في يد الوالدين، وانعدام وسائل التفريح والتبهيج، ولكن البهجة في النفوس لا في الفلوس..
30/10/1422ه
|
|
|
|
|