| الثقافية
لا نشعر بفداحة الخسارة في الموت إلا إذا مس قريباً أو عزيزاً أو شخصية عامة تركت أثراً في النفوس، إنه موقف لا شعوري يجعلنا نشعر بالغرابة تجاه الموت رغم أنه ليس بغريب تجاه أحد، فالموت يختطف كل يوم آلاف الأرواح من عمر الزهور إلى الشيخوخة بعيداً عن كل الاعتبارات.
ولكن عندما يموت من لا نريد له الموت، نبحث عن الأسباب، ونحاول أن نلتمس فيها العزاء لأنفسنا ونهون بها جسامة الخطب وكأن الموت للمرضى فقط!
هكذا موقفنا نحن القبيلة الأدبية إذا صح التعبير من وفاة الأديبة صالحة السروجي التي كانت مفاجأة لمعظم من عرفها أو قرأ لها.
ذهبنا نبحث عن الأسباب، فلما عرفنا أنها ماتت بالمرض الخبيث وجدنا في ذلك بعض العزاء.
إنه نوع من خداع النفس باستخدام مُسكِّنٍ مؤقت للألم، لأن الطبيب يموت أحياناً قبل المريض.
حجم الخسارة
والحقيقة أن الخسارة الأدبية في صالحة السروجي كبيرة، ونحن البشر من طبعنا أن نشعر بحجم الخسارة عندما نعرف أن ما كان بأيدينا قد ذهب إلى الأبد!!
كانت صالحة السروجي مشروع كاتبة قصصية ينمو ويتطور، أصدرت مجموعة أو مجموعتين، ونثرت ما يساوي مجموعة ثالثة على صفحات الصحف والمجلات، على أن ظروف الحياة وحتمية العيش كانت تبعدها عن العطاء الذي تريد للإبداع. قدّر لها أن تعول أولادها الأربعة جميعاً بنتان وولدان وتقود السفينة وحيدة في بحر متلاطم الأمواج، منذ مرحلةٍ مبكرة من حياتها، فكان لا بد أن تأكل بيد وتكتب بيد أخرى وتمشي بقدمين إلى «دوام» يستغرق نصف النهار يعقبه تصحيح كراريس التلميذات ومتابعة شؤون الأولاد والبنات في النصف الآخر، ومع ذلك كانت تسرق بعض الوقت من ذلك كله لتكتب قصة أو تكتب مقالاً كما دأبت في الفترة الأخيرة.
كانت تقول رحمها الله إن رعايتها أولادها والاهتمام بأمورهم التربوية والتعليمية والمعيشية رسالتها الأولى في الحياة بعدما قدر لها أن تعيش معهم وحيدة.. كانت تقول: لا تسألوني عن مؤلفاتي.. إن أحب مؤلفاتي إلى قلبي هم أولادي الأربعة.. عصارة جهدي ومشوار حياتي». وكانت تقول أيضاً: «أما الكتب والقصص والإبداع فإنها الحلم الذي أحمله وأتمنى أن أعطيه من حياتي لو طالت ما يستحق».
بين اليأس والأمل
وأذكر أنها قالت كلمة «لو طالت» بنبرةٍ حزينة، وكأنها تخفي حقيقة دفينة لا تريد البوح بها لأحد حتى لنفسها، فهل كانت تشعر أنها ستموت قريباً وتتحاشى اللقاء بهذا الخاطر خشية الاصطدام باليأس؟
كل الذين عرفوها عن قرب يعلمون أنها امرأة عصامية شقت طريقها بصعوبة، لكن بتفاؤل وقاومت الظروف حتى تغلبت عليها. كانت تتمنى أن تقدم أكثر مما قدمت، وكانت ترى أن المجال متاح للأديبة السعودية أن تبدع، وتحدد ملامح شخصيتها الأدبية، ولا تجعل الخروج إلى الوظيفة أو الأعباء المنزلية والمسؤولية الأسرية تقف عائقاً أمامها.
لقد اتسع قلب صالحة السروجي لهموم كثيرة وأعرف أنها في شهورها الأخيرة حملت همَّ ابنها مشعل (الأكبر) الذي كان يعاني من سمنةٍ مفرطة، وكانت مشغولة به عن نفسها، ولم تبح بقصة مرضها ومعاناتها منه إلا عندما لم يعد في قوس الصبر منزع.
طموح كبير
ولن أنسى آخر حديث معها عبر الهاتف وكان عبقاً بروح التفاؤل.. سألتني عن أفضل ما تقرأ لكتاب القصة القصيرة العالمية. فقلت لها: أنصحك بتشيكوف الروسي وجي دي موباسان الفرنسي. وقالت: أريد أن أعمل في المرحلة المقبلة على تطوير البناء الفني في قصصي، وأعمل على إعداد مجموعتي الجديدة للنشر وأقدمها للنادي الأدبي في المدينة المنورة، وأذكر أنها أثنت على الأستاذ محمد هاشم رشيد رئيس النادي. وقلت لها: ومتى تكتبين أول رواية؟
ومرت لحظة صمت ثقيلة قبل أن يأتيني صوتها حزيناً أو هكذا خُيّل إليَّ حينذاك ثم قالت: إن كان في العمر بقية».
وأحسست أنها تتألم، وأنها قالت تلك الكلمة وكأن شيئاً يتمزق في داخلها، وكان الداء الخبيث بالفعل قد بدأ يسري في أحشائها.
أغلى المؤلفات
وعلمت بعد ذلك أنها نقلت إلى جدة لتواصل «جرعات العلاج» تحفها مؤلفاتها الأربعة الذين عاشت من أجلهم، ولم تصدق إلى آخر لحظة رغم يقينها بدنو الأجل أنها ستستطيع مفارقتهم ولم يحتمل جسدها ما احتمله قلبها ففاضت روحها إلى بارئها في آخر ليلة من شهر رمضان المبارك تاركة خلفها مؤلفاتها التي لم تكتمل.. وهي تقصد بمؤلفاتها التي لم تكتمل أولادها الأربعة، كانت تحلم أن ترى البنتين في مستقبل مأمون، وترى الولدين يعملان. ثم تلتفت بعد ذلك لجمع بقية الأوراق في كتاب.
ماتت صالحة السروجي وكان موتها كغروب الشفق الحزين.
لم يتحقق حلم الأديبة صالحة السروجي رحمها الله في اكمال مؤلفاتها جميعاً.
فما الذي ستستطيع الحياة الأدبية والثقافية أن تفعله من أجل هؤلاء الأربعة المقيمين في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
ثم ما الذي يمكن فعله بالنسبة للأوراق الأدبية والقصص التي تركتها؟
إنه واجب يجب التحرك من أجله قبل أن تجف الدموع وتفتر العواطف، وليشمل الله بفضله ورحمته الذين رحلوا إلى السماء، والذين ينتظرون على الأرض، وليس على الأرض إلا وينتظر ذلك اليوم الموعود، و«إنا لله وإنا إليه راجعون.»
|
|
|
|
|