| الثقافية
تضعنا رواية الروائي المصري «صالح سعد»، مع تعاقب الأيام، أيام الغربة الأخيرة.. كل أمام مرآته.. لنتساءل: أحقاً لا شيء حقيقياً إلا ما هو مرعب، كما الحال في رواية فلسفية من نوع أدب الاعترافات، بكل ما فيها من تداعيات وشحنات حقيقية صادقة حتى حد المقصلة للذات؟!!
«لم أنس قط مرآتي.. أحملها أينما أذهب.. أطالع فيها وجهي كل صباح لأتأكد أنني ما زلت ذاتي.. ولكني أفتش اليوم عنها فلا أجدها بين أشيائي. يملؤني رعب هائل من مصير مجهول مروع ينتظرني إذا استمررت هكذا في الحياة هنا دونها .. دون المرآة..»
يتكاثف معنى «المرآة» ليحمل معنى «المرأة».. هذه المرأة «الكيان» التي لا يستطيع الكاتب الحياة دونها.. خاصة هناك في منفاه حيث تنعدم الإنسانية ويحل مكانها الفراغ العاطفي المتمثل بالبحث المتواصل والذي امتدت جذوره إلى ما يقارب الأربعين عاما وأكثر.. عن توأم الروح.. فلم يبق من العمر بقية قبل أن يعثر على هذه المرأة الكيان الذي من الممكن أن تروي عطش قلبه للحب النقي.. المنزه عن المنفعة والمصالح المادية.
ولكن من هي المرأة التي ما زال يبحث عنها كبحثه عن وهم ساذج؟!!، أهي المرأة الظل؟ التي احتلت كيانه بصورة تشبه الاغتصاب؟ واحتلت كل عتبات حياته حتى اللحظة؟!! هذه المرأة التي أتت بوجوه وأقنعة متعددة من الخيانة والخداع والكذب أسفرت عن عشرات التجارب «الفارغة» التي تركت في ضميره خدوشاً أبدية، فقرر أن يمارس قسوة فراق امرأته الحقيقية ليدرك كم يحبه! ولكن من هي؟ أهي المرأة التي تزوج منها وأنجبت له ابنته «مريم» «للتشديد على حاجة المرأة إلى الطهارة» والتي تخلت عن مهمة الأمومة «.. لقد اختارت طموحها العاجز بدلا من دورها الحقيقي في رعاية زهرات العمر.. وتخلت عن عمق حبه لها..» فهي المرأة الوحيدة من بين كل النساء اللاتي كتب عنهن والتي تتجسد داخل الرواية وترتدي صوتها هي لا صوت الغائبة وتخاطبه بعتاب ومرارة مما يشير إلى تأثيرها الواضح عليه.. والتي توجت تلك العلاقة بالخداع والطلاق والنفقات المادية مما أثقل عليه وجعل منه مخلوقا عاجزا مترددا مقيد الأطراف مكبل الروح، وجعل من الآخرين جحيما ومن الذات وهماً، وولد لديه الشعور بالاختناق، والرغبة في الانسلاخ عن المجتمع المنافق الذي يتعاطى ارتداء الأقنعة حتى للحب والصداقة كمبدأ حياة!! «أكاد أختنق ولا أفعل.. أغادر اللامكان إلى لا مكان آخر لعلني أجد من لا يتعرف على صورتي المهشمة.. فأستريح قليلاً من عبور المشاة بين طرقاتي الداخلية المزدحمة..» وها هو يحيا حسب مبادئ الجميع.. يلبس قناعاً تلو القناع، يتسلى بضحاياه ومنهم نساء الظل، وهو بذلك يعكس الحياة نفسها في مرآة الواقع، ومن أجل ذلك فهو يعاتب النقاد الذين يتهمونه بالسوداوية ويشهر سيف الواقع في وجوههم «.. فيما إذن يتهمني البعض بالتشاؤم.. لأني اشتهيت الموت.. وأدركت طعم النهاية؟! فما أنا سوى كاتب واقعي واقعية النظام العالمي الجديد!».
نساء الظل إذن دفعن به للبحث عن الذات المهشمة خارج الوطن وتصبح المرأة في خياله مجرد «استحواذ نسوي»، وتتملكه خيالات مروعة لنساء إذ يرى فيهن أشكال أفاعٍ متدلية، وهكذا تصبح خلاصة ذلك الواقع الفاشل، مرايا جارحة تدمي العين والقلب معاً، وتتناثر مشاعر الوحدة واليأس والكآبة والتشاؤم على مدى أيام الغربة داخل وخارج إطار الرواية، ويصير ارتداء الأقنعة حاجة ملحة من أجل البقاء، فيرتدي كغيره جميع الأقنعة!! ويظل يبحث عن الحب والمرأة الكيان.. التي حين ينظر في وجهها يرى ذاته والتي حين تنظر في وجهه ترى ذاتها وكأن أحدهما مرآة للآخر، إنها المرأة الحقيقية لا الظل، المرأة التي توازيه عقلاً وثقافة ورومانسية وجمالاً، أما بقية النساء الظل فقد كن مجرد ظلال، جرحت مرآته الحقيقية وتركت ندوباً لا يمحوها الا الزمن ولا يد المرأة القادمة من أعماقه.
هذه الرواية مرآة صادقة لواقع النفاق على جميع المستويات ولعلها دعوة للمرأة أن تصحو من سبات المظاهر وأن تسعى لتكوين اتزان ملح بين ما هو باطن وما هو خارج، وتظل الكتابة سلاحاً نحارب به الكآبة، وتظل وسيلة ودعوة لإشباع وتحقيق الذات بالرغم من كل ما في الحياة من أيام غربة ومنفى!!
www.arabworldbooks.com/ arabicliterature*
|
|
|
|
|