| مقـالات
ليس من بد أن الانسان المعاصر يواجه ظروفاً عاتية تحيط به من كل جانب، ليس بالضرورة أن تكون هذه الظروف محملة بالصعوبات والأزمات والعراقيل والمشكلات في حياته العامة، بل يمكن أن تكون استغراقاً في تجارب علمية جديدة ضد القيم الإنسانية، وتوقع نتائجها وأثرها على الإنسان وأمته وتسييرها لأموره أو تحكمها في مقدراته وقد تكون ظروفاً سياسية ينعكس أثرها على شبكة العلاقات الجماعية فوق الفردية وتخطيها للمحيط، وعبورها لمجتمعات ما هو آخر المتوافق وغيرالمتوافق، غاية الأمر أنه يوثر في حجم العلاقات الإنسانية وشدة التفاعل ومقدار التكيف ومحاولات التواؤم.
إزاء ذلك كله قد يوفق الإنسان في اختيار سبل المواجهة الناجعة في حل المشكلات الطارئة، وتجاوز الصعوبات العارضة فيخرج من دائرة القلق، وقد يصعب توافقه فيكون عرضة للسقوط في هوة التوتر والاضطراب، وتتبدل مشاعره، وتتحول انفعالاته ويعتريه الإحساس باللا أمن واللا استقرار واللا توازن واللا انسجام ومردود ذلك زخم من العلل التي تنال النفس والبدن فيستشعر معها بالألم العضوي، والاضطراب الوجداني.
وما من شك أن الانسان المعاصر بفعل ما يلاقيه من نتاج للتجارب والخبرات الجديدة، وما تخرج به النظريات والعلوم الحديثة وما يتوجب عليه ممارسته من أنشطة متباينة وعديدة، وما تفرضه عوامل زيادة الجهد والطاقة، ومواجهة ضغوط الحياة ومطالبها وملاحقة سرعتها وتقلباتها، إزاء ذلك كله يجد نفسه أمام استدعاء قاهر لشحذ فائق للذهن، وبذل جهد بدني أكبر، هذا إن أراد مسايرة ركب الحياة، وبلوغ حد أدنى من المقاصد والغايات.
ومما يجدر ذكره فإن الحال ليس مطلقاً ولكنه نسبي، فالمثير متنوع والاستجابة متفاوتة، وتنوع المثير يرجع لتغيرات الواقع، وتفاوت الاستجابة يرجع لنوعية الموقف، في مقابلته بقدرات الإنسان وإمكاناته واستعداداته وكيفية استثمارها لدواعي المواجهة وإحلال التوازن مرتكز التكيف والتوافق مع متغيرات الواقع، وتحولات ظروف الحياة. فإذا تحقق التكيف كان عوناً لتجاوز الصعوبات، وملاذاً لإشباع الحاجات وبلوغ الغايات، وتحديد مسار الطموحات، وتقييم الآمال في اطار من الفكر التحليلي، ومنهجية الاستدلال وحينئذ تقوى الفاعلية، وتتعاظم الكفاية، وتصقل القدرة، ويسمو التفكير، ويعظم التركيز، ويستمر التنسيق، ويزداد الإنتاج.
وإذا لم يكن ذلك كذلك حيث يشعر الإنسان بعدم القدرة على مواجهة مشكلات الواقع، والتردي في هوة القلق وصيرورته لفترة ممتدة غير قصيرة يجعل الإنسان يفقد ثقته في الذات والآخر غير القادر على الوفاء بأسباب الإشباع مما يفقده القدرة على مواصلة مسايرة متطلبات التوافق مع متغيرات الواقع المعاصر.
وحينئذ يتوجب على الفنيين القائمين على خدمات الإرشاد الاجتماعي التدخل المهني للوقوف على العوامل المسببة والمهيئة عبر مسارها القديم الجديد في الزمن الحياتي، ونمط سلوك التفاعل وتداخلاته ومخرجاته والمناسب في سبل المعالجة، ومحاور تحقيق الغايات المأمولة في حدود الممكن والمتاح.
وترتكز معالجات القلق النفسي على تفهم الواقع ومعرفة الإمكانات والقدرات، والانغماس في أنشطة وفاعليات هادفة، ومتوافقة، والتأكيد على مفهوم موجب للذات، واستهداف القيم العليا، والاقبال على الحياة بثرائها، ومباهجها المتناغمة، وكذلك النأي عن الحيل الدفاعية التبريرية، والتحليل الناقد لمكونات الموقف في موضوعية بعيداً عن التنظيم الانفعالي، والتوجه نحو المناشط الضرورية البنائية الكلية الاجتماعية والنفسية والصحية والثقافية والروحية والترويجية وجميعها تساهم في تشكيل نمط شخصية الانسان، فضلاً عن التدريب على استخدام امكانات التوافق مع الذات والآخر مهما كان التبدل والتغيير في مسار الحياة، وتوفير سبل المساندة الواجبة ذات المغزى في تحقيق الرضا النفسي والانسجام الاجتماعي والتوازن مع النفس والآخر، وذلك من أجل الاستقرار الآني والسعي الواعي نحو المستقبل وتحقيق الطموحات، وزياة مساحة الآمال الممتدة في اليوم والغد.
ونتابع مرتكزات معالجة القلق النفسي أو تخفيف حدثه وذلك بالعمل على استثمار أقصى ما لدى الإنسان من قدرات وهبه الله بها في العمل الهادف من أجل التواصل السوي من حولنا والتفاعل الإيجابي من أجل مواصلة الحياة في اطمئنان وثقة وقناعة ورضا. وأيضاً بالعمل الدؤوب على تغيير الواقع المقلق وذلك باستخدام ما لدينا من طاقة وقدرات وإمكانات في التوجه نحو تحقيق هدف واضح مع بذل النشاط المقنن لإنجازه وعدم التواني في السعي لايجاد بدائل لخيارات عديدة تسهم في التوصل للطريق المناسب الهادي لبلوغ ما نصبو إليه من هدف.إن هذه المرتكزات يمكنها أن تستغرقنا لدرجة تنأى بنا عن التدني في هوة المشكلة، بل تحفز طاقة الإقدام لحل الأمور التي سبق أن استعصى حلها مما تسبب عنه الشعور بالقلق.
ومن معينات النجاح في التغلب على القلق وأعظمها أثراً في مرتكزات المعالجة هو الايمان، الايمان المرتكز على الوعي التأملي وإيجابية القيم وسمو المثل، وعدالة الأداء والإخلاص في بذل الجهد، فهذا كفيل بالتأثير على مشكلات الواقع المعاصر تأثيراً إيجابياً. ويؤكد علماء النفس أن الانسان إذا نجح في التمكن من زمام التحكم ولو في أحد عناصر الموقف الذي يسبب له القلق فسوف يتبدد من داخله التوتر والشعور بالاضطراب.
وأن محاولة بذل الجهد في مجالات العمل المفيد من أجل الآخرين يحسّن صورة الذات ويحولها إلى الصورة الموجبة التي عن طريقها تزول مبررات القلق، بل هو طريق لقهر القلق والحصول على النجاح وإعادة السلام النفسي لنا ولمن حولنا.
|
|
|
|
|