| محليــات
أبخرة القهوة تتصاعد...
علَّها تخفف من وطأة برد الشتاء...
والإنسان لا يقوى على الحر...، مثلما أنَّه لا يقوى على البرد...
يتحايل الإنسان على الطّقس، فتارةً يذهب ليُبرد ما حوله في الصيف، وتارة يذهب ليدفىءْ ما حوله في الشتاء...
أبخرة القهوة تتصاعد...
ويصكُّ أنفي زخمها...، تستدرُّ رائحتها فيَّ الهدوء، والصقيع، وشيئاً من ليالٍ كانت النَّملات الصغيرات يعبُرن فوق الورق...، كلَّما أتحت لهن العبور، كي أتملَّى في دقَّة صُنع اللَّه، وفي جليل حكمته تعالى...
كانت النَّملة...
تُحدِثث صوتاً ليس في أذنيَّ...، وإنَّما، كلُّ كياني يتحول إلى آذان صاغية لدبيبها...
حتى أنَّني التحمت بها... وكانت رفيقة توجسي، وخيالي، بل هاجس الكتابة عندي...
في مساءات الشتاء...
يأخذني طعم القهوة...، على مسارات خيوط أبخرتها إلى عوالم بعيدة، ليست تقرب، ولا تنأى عن الأبعاد التي أمضيتُ عمري ألهث كي يصل الآخرون إليها...
أمتشق قارب أحلامي...
وأجدِّف ببوصلة أفكاري...
وأطرق تلك الشواطىء البعيدة...، أبحث عن الطَّيف، والمحارة...
هناك بجوار قوارب الصيادين...
تتهادى إلى مسامعي أغانيهم البائسة، وتطلُّ عليَّ هياكلهم المنحوتة من الإبحار، والتَّجديف، كي تصبَّ في أذنيَّ، أهازيج الشِّتاء...، وأهازيج الصَّيف، وتأوّهات الصَّمت، في دفء الخوف، من رعدة البرد، أو التَّوجس، من حرِّ الصَّيف...
والمساءات حينما توغل في وحشة الشِّتاء...
ترسل عنفوان الخاطرة...، وهي تندرج في مسالك العابرين، بكلِّ المشاعر الحميمة، نحو الحديث إلى سراديب الصمت، ذلك الذي يصرخ، لا يهمس...، ويتكلَّم، لا يهجع...
هذه الأبخرة تتصاعد بين أصابعي، وهي تُطْبِق على كوب القهوة، وقد تحوَّل بينها إلى مجداف، وبوصلة...، عاجلتني النَّملة وهي تدبُّ في ذاكرتي، فهرعت إليها، أتملَّى صفحة وجهها الدقيق، حسبتها من شدَّة البرد، قد نفقت، لكنَّها جاءتني تقهقه: ذلك لأنَّها ترفض الإحساس بالشتاء...
هي لا تعرف النشاط إلاَّ وهي تغذُّ السَّير فوق حروفي...، لكنَّها لا تطمسها، بل تتحول شيئاً منها...
وتلك هي الحروف المنَمْنمة...، نحلاتٌ صغيراتٌ ترسمن للأبعاد معانيها، ولخيوط أبخرة القهوة مساربها...
وتطلُّ كافَّة الرؤى...
وتنتشر كلُّ الأحلام...
ولا ينتهي المساء، ولا يبدأ السحر...
ولا يذهب الغسق، ولا يُقبل الفجر...، ودانوبيَّة قطرات القهوة، تتسَلّل إلى الجوف، كي تُسكن فيه رغبة البوحِ كلاماً...
أولئك النَّازحون من أرصفة الصقيع، إلى شواطىء الدِّفء...
لا يعرفون كم في الصقيع من حياة، كما كم في الدِّفء من الموت...
والإنسان الذي اختلطت عليه سكنات المراكب، بصرير الأبخرة، بهدير النَّمل، بعواء الصقيع، بنحيب القيظ...، بهذا، وذاك، وكلِّ ما هنا، وهناك...، لايزال يرفع عقيرته، يُناجي، أو يهدر، يُخاصم، أو يُطرب...، لايزال يلفُّ كفَّيْه، حول خاصرة كوب القهوة...، يتلمَّس فيه شيئاً مما لم يمنحه الطقس من حوله...
غير أنَّه كلَّما فكر، في احتواء مثل ذلك خارج إطار الشتاء...،
فرَّ خوفاً من الرمضاء...
ولا تزال لحظات الدَّبيب، لحركة سرب النَّمل...، تبعث لأولئك البحَّارة بطُعْمٍ...، كي تنزل شباكهم إلى البحر...، و... ربَّما تجد الصَّيد، وربَّما تظلُّ تكابد الطريدة...،
ذلك...
والمساء، يوغل في الصَّمت...
واللّيل، يتملىّ ساريات المراكب...
والفجر، يُحدِّث بوقع خطوات النَّمل...
والضحى...
يُرسل إلى حوافِّ أكواب القهوة...، بما تبقَّى من رسوم، على خارطة أبخرتها...،
حملَتْها البوصلات إلى حيث أعراس النّوارس...، وبروق الأطياف...
وزخم القهوة...
لايزال يُعمِّر أنفي...
بشيء من هيبة السكون، ورهبة الإحساس بقدرة الذي كوَّن الكون، وبثَّه كلَّ هذا الجمال... السَّافر... تأخذني إليه أبخرتها، على مسارات قاطراتٍ... ليس لها ميناء.
|
|
|
|
|