| الاخيــرة
** كانت لنا جارة تركية طيبة.
** كانت أمرأة ثرية عجوزاً، تحب الأطفال ويحبونها، وتحسن إلى الفقراء والمعوزين، وتبذل الصدقات، وتصل جيرانها بالهدايا، والكلام المؤدب المهذب، كان بيتها نظيفا مرتبا وكان خدمها مطيعين منضبطين، كان وجودها في الحارة برداً وسلاماً.
** كنت في طفولتي، مغرماً بالحلاوة التركية التي تبرني بها عندما أزورها، والحلاوة التركية، كما كنا ندعوها في ذلك الزمن، هي مزيج ساخن من الدقيق، والسمن، والسكر، وقد يضاف اليها بعض الهيل، والجوز، وغير ذلك، كان مذاقها لذيذاً وملمسها ناعماً، ورائحتها عطرة، وكان يحيط بذلك الجو اللذيذ، العطر، كرم جارتنا التركية ولطفها، وحكاياتها المثبرة التي لاتنتهي عن طفولتها وأقاربها، ومدينة اسطنبول الساحرة الجميلة، وغضبها الذي تعبر عنه بطريقتها المؤدبة، على اولئك العسكر، الذين نزعوا الطربوش عن رؤوس الاتراك، وحولوا الحرف العربي المقدس الى اللاتينية، وحاولوا ترجمة الاذان إلى اللغة التركية.
لم أكن أفهم شيئاً في التاريخ و السياسة، ولكنني كنت مقتنعاً حينذاك، بأن امرأة طيبة صالحة، تصنع حلاوة تركية لذيذة، على حق دائما، وأن اعداءها مخطئون ظالمون، يستحقون الضرب، والتعليق ب«الفلكة» وقرص آذانهم.
و«فولكلور» أهل المدينة يحكي قصة القائد العسكري التركي، الذي غضب على القطار لأنه وصل من استانبول الى المدينة مبكراً كثيراً عن موعده، فأمر القائد بشنق المحرك.. وكنا نزور محطة قطار سكة حديد الخط الحجازي في «العنبرية» بالمدينة ونشاهد محركاً صغيراً معلقاً على عمود خشبي فيقولون لنا ان هذا المحرك الذي شنقه القائد التركي ولعله حقيقة لايتعدى ان يكون جزءاً من ماكينة، وضعت جانباً لإصلاحها، ثم نسيها الزمان، ولكن لم ينسها «الفولكلور» الشعبي المستهزئ بالحاكم التركي.
* ويحكي كبار السن من اهل المدينة قصة قائد تركي آخر امر بقطع اشجار النخيل، لأن الحر اشتد بالمدينة ذات صيف، وعندما سأل الجنرال التركي عن ذلك أخبره الناس بأن اشتداد الحر ضروري لإنضاج النخيل فاعتقد ان مشكلة الطقس الحار سيحلها اجتثاث النخل، فقطعه.
* وقصة «السفر برلك» وحكايات التشرد والضياع الذي عانى منها اهل المدينة تشير في بعض جوانبها الى التعنت العسكري، والعناد، وتصلب الرأي المعروف في التقاليد العسكرية التركية، وكتاب الأديب السعودي الراحل، عزيز ضياء، «قصتي مع الحرب والحب والحياة» تحكي جانباً كبيراً من هذه المعاناة.
* وكانت هناك بالطبع، حقبة حكم الاتحاد والترقي، والقومية الطورانية، وتغلبها الأغبر الذي أراد ان يفرض التفوق العرقي على شعوب مختلفة الأعراق، كان يوحد معظمها، تحت الحكم العثماني، لواء الدين، وساسة التسامح السلبي، واستقلالية الادارات والاعراف المحلية، فظهرت في هذه الحقبة مشانق العسكر في دمشق، وبيروت، وجبل لبنان، وفي العراق.
هذا ليس إعادة سرد للتاريخ التركي الحديث، وليس بعثاً للمآخذ، والأحزان، فالمستقبل أولى بالسرد وآماله أولى بالبعث بين الشعوب والمجتمعات.
ولكن الأحداث المعاصرة، تثير ذلك المزيج من المشاعر تجاه تركيا المعاصرة والحديثة، والإشارات التي يتلقاها العرب، والعالم أجمع، تحفز مخاوف الماضي، وتعقيداته، و«كوكتيل» الأحداث وتفسيراتها والانطباعات التي تتركها في النفوس.
تثير تركيا المعاصرة هذا التناقض بين الحلاوة التركية للمرأة العجوز الطيبة، و«بسطار» العسكري التركي المتعنت المتغطرس صاحب النظرة الضيقة والأفق المحدود.
تركيا العلمانية الديموقراطية، تتخذ منهجاً علمانياً ديمقراطياً، يصنعه العسكر ويديرونه، فهي علمانية، لاتدع الدين وشأنه، بل تناصبه العداء، وتحرض عليه، وتنفي مظاهره، على نحو يستثير عناصر التطرف فيه، وهي ديموقراطية لاتقبل حكم صناديق الاقتراع، اذا لم يأت الحكم على هواها، فتعطل قرارات الناخبين وتبعثرها، ويدير مجلس الأمن العسكري الوطني، البرلمان، والأحزاب، والوزراء، والمحاكم، والسياسة الخارجية.
وتركيا التي اراد لها كمال اتاتورك ان تكون أوروبية تناصب اليوم، أوروبا العداء بسياستها تجاه الأقليات العرقية، وحقوق الإنسان، وتدخل العسكر في الحكم.
وتركيا ذات الامتدادات الاسلامية، والآسيوية، والوشائج العربية تتحالف مع اسرائيل وتستضيفها في مجالها الجوي، وبحارها الاقليمية، تنسيقاً وتدريباً فيزعج العرب لهذا الاختراق المخيف لخطوطهم الخلفية، ويستغربون، او يسخطون، على رفيق التاريخ، الذي يخضع لحكم العسكر، ويتآمر مع عدوٍ استراتيجي ظالم للعرب ومنهك لحقوقهم.
إن تناقضات الهوية، والسياسة، كثيرة، في تركيا المعاصرة.
ولست وحدي الذي أقف محتاراً، وأشاهد متعجباً.
وعندما ينقشع الضباب، ويركد الغبار، سيجد الاتراك انفسهم محتارين بين «الحلاوة التركية» وحذاء او «بسطار» العسكري التركي.
|
|
|
|
|