| أفاق اسلامية
تحقيق عبدالله بن ظافر الأسمري
القرآن الكريم كلام الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، هدى الله به الإنس والجن، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكم ما بيننا، هو منهج حياة وشريعة كاملة تهدي إلى صراط مستقيم، فمن تمسك به فاز ونجا، ومن أعرض عنه خاب وخسر، والمسلم يلهج بالشكر لله أن وفقه الله إلى هذا الدين العظيم وأعانه على تدبر معاني هذا القرآن الكريم، ولكن للأسف كثير من أبناء الإسلام هجروا القرآن ولم يعودوا يقرؤونه سوى في رمضان، بل وللأسف هناك من هجر العمل به وأخذ يتيه بعيداً عن هذا التشريع الرباني العظيم.
وفي هذه الأيام بعد انقضاء شهر رمضان المبارك لنحملها دعوة في هذا التحقيق للاهتمام بالقرآن الكريم وخطورة هجره طوال العام مستشعرين عظمة هذا القرآن على الدوام فإلى الموضوع:
هداية ورحمة
بداية الأمر وعن هذا المنهج العظيم تحدث لنا فضيلة الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الشيخ الدكتور فالح بن محمد الصغير حيث قال: يقول تعال :
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ويقول تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين). فالقرآن كله هداية وموعظة، رحمة وشفاء لما في الصدور، سكينة وطمأنينة .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمرو أن يقرأ القرآن في كل شهر، وعندما قال: أطيق أكثر من ذلك أمره أن يقرأوه كل سبع ليال مرة كما في صحيح البخاري وذلك حتى يتدبر ما يقرأ ويطبق في حياته ما يتعلم من تلاوته، ولذا قد ورد عن الصحابة أنهم ما كانوا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من أحكام ويطبقوها، فكانوا يتعلمون العلم والعمل معاً، ولذا عندما نقرأ سيرهم نجدهم قرآناً يمشي على الأرض، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن.
وأضاف الصغيّر: ولما كانت قراءتهم للقرآن متأنية وبتدبر كانوا يخشعون عند تلاوته راجين رحمة الله خائفين عذابه عملاً بقوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) وقوله تعالى:
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اقرأ علي» قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري» قال: فقرأت النساء حتى إذا بلغت «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً» قال لي: «كف أي أمسك» فرأيت عينيه تذرفان.
أيها المسلم .... الحذر الحذر
ومما لا شك فيه أن التخلي عن العمل والتدبر لهذا القرآن العظيم هو عين الخطر، فقد يبدأ الأمر بالتساهل ثم ينتهي بشيء أخطر من ذلك بكثير والله المستعان، وهنا نبه فضيلة الأستاذ بقسم القرآن بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الشيخ الدكتور احمد بن عبدالله الباتلي على ذلك بقوله: إن مما ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمان «هجر القرآن الكريم» بسبب انشغالهم بأمور الدنيا، ومن المعلوم أن هجر القرآن على نوعين :
هجر العمل به: وذلك بعدم الالتزام بتعاليم الإسلام في حياتنا، فتجد بعض المسلمين هداهم الله يقرؤون القرآن ولا يعملون به. فتجدهم يقرؤون آيات الصدق ويكذبون ويقرؤون آيات صلة الرحم ويقطعون أرحامهم، ويغشون ويخونون وهم يتلون قوله تعالى : (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض...) الآية، ويتلون آيات القرآن في بر الوالدين ويعقون آباءهم وأمهاتهم وهكذا، وهو أمر خطير بأن يخالف القول العمل (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
آثار وأخطار
ويضيف د. الباتلي توضيحاً مهماً فيما يترتب على هذا الخطر من آثار وخاصة في انتشار المنكرات فيقول: أما أثر هجر القرآن في انتشار المنكرات فيتمثل في أن الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به قد يقع في بعض المنكرات كمن يقرأ قوله تعالى: «ولا تقربوا الزنا» ثم يفعل ما يؤديه إليه نسأل الله السلامة، كذلك نوع آخر لا يقرؤون القرآن فيصبح إيمانهم ضعيفاً فلا يخافون من الله ولا من عقابه فيقعون في المنكرات بسبب ذلك، فالقرآن يؤثر في حياة المسلم تأثيراً بليغاً، فهو يهتدي في جميع شؤونه بكلام ربه سبحانه وتعالى عملاً بقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)، والقرآن كله هداية ونور يضيء للناس طريقهم، وفرق كبير بين من يمشي به في الناس «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها».
واقع وتطلعات
بعد ذلك أوضح الشيخ فالح الصغيّر صورة من صور تعاهد القرآن والمتمثلة بدور وحلق تحفيظ القرآن الكريم وقال: فمن الأمور التي تثلج صدور المؤمنين وتسرهم انتشار حلقات القرآن الكريم في كافة أرجاء هذه البلاد قرى وأمصاراً، للبنين والبنات والموظفين والأمهات لكافة المستويات، ولله الحمد والمنة، ومن بركة هذا القرآن العظيم أننا كم سمعنا صغاراً في السن قد فاقوا كبارهم وهم يغتبطون بهم لأجل تعلمهم القرآن الكريم، وحقاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا القرآن يرفع به أقواماً ويضع به آخرين»، وهذا ابن عباس يقول:
(توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم)، فكان عمر رضي الله عنه يسمح له في مجلسه، بل كان يشاوره في كثير من الأمور، وهذا سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه كان يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيه أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم وسالم في ذلك الوقت كان مولى وصغير السن، ولكن القرآن رفعه.
عناية وامتهان
ثم يعرج الصغيّر على نقطة مهمة يجدد التنبه لها فيقول: ولكن الملاحظ مع انتشار هذه الحلقات ما يشكو منه بعض المعلمين من امتهان بعض الناشئة للمصاحف أثناء القراءة فيها أو بعد ذلك من تمزيق أوكتابة فيها أو رميها على الأرض، قال النووي رحمه الله في التبيان: أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته ولأجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو كما في صحيح البخاري لئلا يمتهن العدو المصحف.
وتطرق فضيلته لمعالجة هذا الجانب بمجموعة من العناصر أجملها بالتالي:
1 أن لا يعطي المصحف من هو دون سن التمييز، وإنما يلقن بعض السور القصار من قبل المقرىء.
2 أن يعطي من هو في سن التمييز ما يناسبه من الأجزاء، فلا يعطى من يحفظ جزء عم مثلاً العشر الأخير، إنما يعطي جزء عم فقط والذي يحفظ في العشر الأخير لا يعطى الثلث الأخير.
3 أن يخص كل مصحف لطالب حيث لا يغيره فيعرف من يعبث به فيؤدب.
4 أن يخص يوم في الأسبوع لتعليم الطلاب آداب حملة القرآن، من خلال كلمة أو قراءة في كتاب مثل «التبيان في آداب حملة القرآن» للنووي رحمه الله.
5 أن ترصد جوائز لمن يتخلق بأخلاق حميدة ويحافظ على مصحفه الخاص باحترام ونظافة.
وعيد وتهديد
وفي نهاية المطاف يتحدث «للرسالة» فضيلة الدكتور نبيل بن محمد آل إسماعيل الأستاذ بقسم القرآن الكريم بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مبيناً عظيم المنزلة ووعيد الهجر لهذا الكتاب الكريم، وذلك بقوله: إن الله أنزل القرآن الكريم للناس ليفهموه ويتدبروه ويعملوا به، فقال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) فالمشروع في حق المسلم أن يحافظ على تلاوة القرآن ويكثر من ذلك حسب استطاعته امتثالاً لعموم قول الله سبحانه وتعالى: (واتل ما أوحي إليك من الكتاب)، وقوله عن نبيه صلى الله عليه وسلم (وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلوا القرآن) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة) أخرجه مسلم.
إذاً فليس بغريب أن يعتني المسلمون بالقرآن الكريم ويتعاهدونه بالتلاوة، والحفظ، والتدبر، والعلم، والعمل به، وهذا ولله الحمد والمنة ظاهر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ نزوله إلى يومنا هذا، ولا عجب أن ترد النصوص في القرآن نفسه، وفي السنة أيضاً، موجبة تعاهد القرآن الكريم، ومحذرة كل التحذير من هجرانه أو التقصير في حقه.
ولقد بين الله تعالى شكاية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه هجران قومه للقرآن فقال سبحانه مخبراً عن رسوله أنه قال:
(يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)، وتوعد الله سبحانه الذين يعرضون عنه (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً) ثم صور حالة ذلك المُعْرِض يوم القيامة (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وحين ذم الله تعالى هجران القرآن، فإنما يدعو إلى تعاهده والإكثار من تلاوته وأمر بذلك (ومن الليل فتهجد به نافلة لك).
وفي السنة أيضاً، ورد مثل ما ورد في القرآن من الأمر بتعاهد القرآن الكريم والتحذير من هجرانه، والوعيد على ذلك، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثلاً لتعاهد القرآن، فقد كان يقرأ على أصحابه، ويستقرئهم، ويحثهم على القراءة، ويعقد الراية لأكثرهم حفظاً للقرآن، وقدم يوم أحد حافظ القرآن في اللحد، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه (تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
ولا يقتصر هجر القرآن على هجر تلاوته، بل على هجر النظر في المصحف، فدعا العلماء إلى النظر فيه، ولذا فضل بعضهم قراءة القرآن من المصحف على قراءته عن ظهر قلب، وكره السلف أن يمضي على الرجل يوم لا ينظر في مصحفه، وليس على وجه الأرض كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده تلاوة ونظراً غير القرآن الكريم.
وقد فصل ابن كثير رحمه الله في تفسير معنى الهجر فقال (فكانوا أي المشركين إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعونه فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه.
top0077@maktoob.com
|
|
|
|
|