| محليــات
أتدرين بأنَّني الآن يا سيدتي أستعيد كلَّ لفتاتكِ...، وحواراتكِ...، وأتقصَّى ذلك الهدوء...، وراء صمتكِ، وأنت تصغين إلى حديثي...، وتلك المحاولات منكِ، لأن تسبري أبعاد مقاصدي...
لا تدرين يا سيدة الصِّدق...
أنَّ الصِّدق أنتِ...، فلا تسألين، كيف غدوتُ ماهرةً، في قراءة كلِّ لفتةٍ، وكلِّ شارةٍ، خلف زاويتيْ عينيكِ، بل في إشارةٍ، من إشارة، من إشاراتكِ...
كنتِ ذكيَّة، ودرَّبتِ في مدرستكِ، كلَّ الأذكياء الذين تعاملتِ معهم...، لماذا فشلتِ فقط، في أن تجعليني ذكيةً، فأختصر الطريق، كي لا أقع، في براثن غبائي...
هذا الصغير وهو يتلمَّس أطراف ثوبي...
أحسبه يلهث وراء صدق ما أحمله، في جوفي، من الودّ له...
أنتِ تعلمين، أنَّ صدق الجوف، لا يمكن أن يصل إليه، إلاَّ وميضُ الصِّدق، المنبعث منكِ...،
ذات يوم...، كانت إليَّ «مسرجتكِ»، هكذا كنتِ تحبين أن توسميها...، فأهل «مكة» يا نوَّارة، كانوا يمارسون انقضاء ليالي الشتاء، والصيف، في معيَّة «المسْرَجة»...، وكانت حداءات الليالي، ومسامرة النجوم، تحلو مع وميضها الخافت...
وكنتِ تُلقمين صغاركِ الزاد...، وتأوين معهم إلى النوم...، وأنتِ تحادثين وميض الضَّوء...، وترسمين مع خيوطه، ووهجه أحلامكِ...، كانت يا نوَّارة، أحلامكِ زهريةً، ورديةً، لكنَّّها مغموسة، في طين الأيام، مُفَوَّحة بأريج الحنطة...، حيث تجدلين ضفيرتيك، وتعقصينهما خلف رأسكِ، كي لا تتعفّرا بلون الطَّحين...، وأنتِ، تردّدين أهازيجك...، حتّى خلْتُ، أنَّكِ وثَّقْتِ كلَّ هذا الزّخم، خلف رموشكِ، وعند زوايا عينيكِ، وأرسلتِ إليها عيْنيَّ، وهذا الذي نجحتِ فيه، ضمن ما نجحتِ فيه معي...
اللَّحظة التي تمرُّ...
وأنتِ، خَطْفاً في لمحةِ تبرقين...، ثم ما تلبثين أن تختفي...
أحملُ إليكِ وميضاً، من وميض «مسرجَتكِ»، ولأنَّكِ رسمْتِها في مُخيَّلتي، فإنَّني لا أخطىء الوصول، إلى مسارب ضوئها...
جئتكِ محمَّلةً بالأماني...، غير أنَّها قد تعفَّرت، بشيء من التَّوَجُّس...، لا أدري لماذا لم أعد طليقةً...، حبسني خوفي، وأحاطني تردُّدي...، وخشيتُ أن أجوبَ المسارب الطويلة، كما تعوَّدتُ معكِ، في ثقة، ذلك لأنَّني فقدتُ بوصلتي، في معيَّة التَّوَجُّس...،
أنتِ الآن، جئتِني بكلِّ الطمأنينة...، وحثوتِ في وجهي برشَّات منها، انتفضتُ مذعورةً، وعندما وجدْتُها أنتِ...، عادت لي سكينتي...
ثم أنتِ بلا ريب تثقين بأنَّكِ ثقتي...، فلماذا تبعثين إليَّ بهذا الخوف؟... لماذا لم تعد مسْرَجَتُكِ ترسلُ إليَّ بوميضها؟... أم أنَّ المسافات، والحواجز...، جعلتكِ تارة تُسْكنين...، وتارة تُخيفين؟...
ما تخيَّلتُ أبداً، أن أضعكِ، بين مطرقة الخوف، وسندان الطمأنينة، ولا تخيَّلتُ على الإطلاق، أن تعْبري ولو لثانية، من جسر التَّوجُّس...، ولا ظننتُ، أنَّكِ قابلة، لأن تتعفَّري بطحين الرَّحى، ما بين الطمأنينة، و... الخوف...، ولا أحسب أنَّكِ كذلك...، ولكن، ما أفعلُ وأنتِ من يفعل؟...
أنتِ من يحمل إزميل الألوان...، فتارة الألوان داكنة، وأخرى مشرقة، وتارة تبعثُ الفرح، وأخرى تبحث عن كوامن الخوف، فتجلِّي عن منافذه...
أنتِ، لستِِ أنتِ...
حتى بتُّ في الرُّؤى غريبة، لا ألوي على شيء، فلجأتُ إلى ما بين الثَّانية، والثَّانية، أمرِّغُ زمني، في نهر السَّكينة...
حين أرشفُ من هذا النَّهر...، تعود إليَّ كافَّة مجاديفي... ولا أفارقُ موقعي، وأرتشفُ من نورٍ مُبين...، فيه كلُّ الاطمئنان، إلى أنَّكِ، من يرسلُ من المسرجة الضَّوء، لا مَنْ يكشحُ من الرَّحى الطَّحين...
يا سيدتي...
تعلّمْتُ أبجدية أنْ ألتقطَ من نجوم السَّماء ضوءاً، لا يفترُ في صدري مداه...، نوراً لا تنتهي له شعلة، ولا تخبو له ومضة...
تذكَّرت (مسرجتكِ)...
وتلك الآماد التي انطلقنا فيها، نعلِّم بعضنا، كيف يصفو الصَّفاء...، وكيف تُسْدلُ أشرعةُ النُّور والوفاء...، كي لا تكبو قوادم الصِّدق، أو يتعفَّر وجهه...
أنتِ الصِّدق...
وقد تيَّقنْتُ من ذلك...، منذ أن أرتشفتُ من نهر طُهركِ ياسيدتي، ما منحني قوَّةَ الاستمرار، في الاتجاه، نحو مسارب النُّور الأزلي...
اطمئني...
فإنَّني بين مطرقة الصِّدق، وسندان الوفاء...، لا أبارح...، لا أبارح...
وأنتِ شامخةٌ...
لا يأتي منكِ...، ولا عَنْكِ...، سوى الوميض...، فتشحذينه صدقاً، فينساب النُّور...، ليعمُّ كلَّ الصَّدور...، تلك التي... لم تعرف النُّور، كما هو صفاؤكِ يا سيدتي...
ألا...، فإنَّني أراكِ مدرسةً، لكلَّ الذين يعرفونكِ...، تدرِّبينهم، كيف يتعاملون مع خيوط النُّور...، فيغزلون أردية قلوبهم، ونواياهم.، بل كيف يشكِّلُون نسيج خطواتهم، في أقوالهم، وأفعالهم...،
سأشرع للطمأنينة الباب...، ولسوف أجتاز معكِ جسر التَّوجس، والخوف، عندما يعمُّ الصدور، كلُّ النُّور منكِ، يا كلَّ النَّور أنتِ...
|
|
|
|
|