| الثقافية
في القرن السابع عشر لمع اسم «أولوف رودبك» Olof Rudbeck)) كتقني رائد ناجح في الصناعة الوليدة آنذاك، انتشرت شركاته الصناعية
وطارت شهرته، لا في موطنه «السويد» فحسب، بل وعمّت جميع بلدان شمال أوروبا، فغدا من أصحاب النفوذ والثراء والشهرة. بعدما يقرب من قرنين من الزمان، وفي عام (1833م) على وجه التحديد، ولد من سلالة ذلك الصناعي الشهير، طفل في «استوكهولم» عاصمة موطنه السويد، قُدر له، أن يبز جده الشهير، ثروة وشهرة، ذلك هو «الفرد نوبل»..
هاجر مع أسرته وهو لم يبلغ التاسعة من عمره، إلى روسيا، حيث وفرت اسرته الثرية، له ولاخوته هناك أرقى مستويات التعليم في العلوم الطبيعية والإنسانية، على أيدي أساتذة خصوصييّن متخصصين.. فلا غرابة إن تشعبت اهتمامات النابغة الصغير «ألفرد»، فلم يكتف بتخصيب حقول العلم والاختراع، بل وحرث وبذر في حدائق الشعر، وزار وتنزه في بساتين الأدب!..
إعجابه بما رأى في مروج الشعر والأدب، كاد أن يغريه بالاستلقاء والإغفاء تحت ظليل فروعها، وخاصة بعدما ابتهج بمرأى ما كتب من شعر، وألّف من أدب، لو لا أن أيقظه ما ناله من شهرة وما جناه من ثروة، نمت فأزهرت وأثمرت مما بذره في مزارع العلم والاختراع. فلقد ناهز ما حاز من براءات الاختراعات (350) براءة اختراع، كان أينعها ثماراً وأكثرها انتشاراً، هو ما أورق وأزهر، عام (1866م)، وعمره آنذاك، لم يتعد الثالثة والثلاثين، حين توصل إلى أهم اختراعاته على الاطلاق.. الديناميت!
انتشرت شركاته حتى عمت عشرين بلداً في العالم، إثرازدياد الطلب على الديناميت، لا في الولايات المتحدة التي كانت تمر بفترة نماء تتطلب شق الطرق وبناء السكك الحديدية واستكشاف واستثمار مكامن ثرواتها الطبيعية، بل وكانت معظم البلدان الأوروبية تشهد مثل ذلك التطور إضافة لغزوها واستعمارها لغالبية دول العالم بل ما يتطلبه شق الطرق من تفتيت جبال، وحفر أنفاق واستثمار مناجم من كميات متزايدة من الديناميت، ناهيك عن استخدامه في الأغراض العسكرية من نسف وتدمير، مما حقق للمخترع الشهير إن لم يكن الأشهر، ثروات طائلة..!
القول بانه الأشهر، لا يعود لكون اختراعه كان هو أنفع ما شهدته البشرية، فعدد ما يفوقه أهمية، قد يعجز عن تعداده قلم، بل يرجع لكونه وهب ثروته لخدمة الإنسانية، في كل ما اعتقد أنه يخدمها في حقول العلم والأدب، والاقتصاد والسلام. ومن الاجحاف والجور، ترديد وتصديق مايقال من أن «الفرد نوبل» أوقف ثروته ندماً على اختراعه لما أصابه من تبكية ضمير، نتيجة ما سببه الديناميت للبشرية من خراب وتدمير. فلا الندم ولا تبكية الضمير حدا بمخترعي أسلحة، أشمل دماراً، وأسفك دماءً، وأشد فتكاً، بدءاً من البارود، مروراً بالالغام، ووصولاً إلى الأسلحة الكيماوية والجرثومية، والقنابل الذرية.. ناهيك عن أن كل تلك الأسلحة نادراً ما استخدمت للأغراض السلمية، وحتى وإن جرى استخدامها كالطاقة الذرية، فإن مخاطرها كبحت لجام انتشارها، بعدما نجم عن كارثة «تشيرنوبل» من تداعيات، أرعبت العالم، فيما الديناميت استخدم، في شق الطرقات وحفر الأنفاق والمناجم، فساهم لا في تقصير المسافات، فساعد على تيسير السفر بالسيارات والحافلات والقاطرات، أو حتى تسهيل حركة حجاج بيت الله الحرام، وإنما كان له أبعد الأثر في اكتشاف الثروات من معادن وذهب وألماس، بل وحتى النفط، حينما استخدم وربما مازال في بث موجات التفجير عبر طبقات الأرض ورصد ما تسببه من ارتجاجات، في تحديد مكامن وسعة، حقول النفط والغاز.
ولكن كل تلك المميزات لا تبرر كونه الأشهر بين المخترعين، فكم منهم فاقه، عبر التاريخ شهرة، وزاد عنه ثروة، لكنه ما لبث أن خبا ذكره، فيما يحتفي العالم أجمع هذه السنة بذكرى مرور مائة عام على تأسيس جوائزه الشهيرة والتي باتت مطمحاً للسياسيين، وعلماء الفيزياء والكيمياء، والأدباء، لما تؤمنه لهم من سمعة وشهره إضافة لجائزتها المالية السخية، فخلدت اسم «ألفرد نوبل» وأدامت ذكره.
إن كان من فاز بها في خدمة السلام، محل امتعاض بل وحتى انتقاد الكثيرين، ومن فاز بها في حقول علوم الفيزياء والكيمياء، وإن افتخرت بهم بلدانهم، إلا أنهم قد لا يثيرون اهتمام سوى المختصين، فالفائز بها في حقل الأدب، هو بلا أدنى شك جدال محل اهتمام الشريحة الأكبر، وخاصة من المهتمين والشغوفين بالاطلاع على روائع الابداع الأدبي لمختلف أمم العالم، مما يزيد من تآلف وتعارف شعوبها، بعضها على بعض.. لعل في ذلك ما يحفز على استعراض إنجاز آخر من فاز بها (فيديا هاد سوراج نايبول) عام 2001م، عن روايته (منعطف النهر A Bend in the River)، التي روى فيها قصة بطلها.. سالم!..
***
وقد يميز قصة سالم عن الكثير مما سبقها، أنها تحمل في طياتها العديد من أوجه التشابه، فيما ترويه من أحداث وظروف ومراحل، مع ما عايشه ومر به العديد من بلدان الوطن العربي، في حقبته نهاية الاستعمار وبدايات الاستقلال!..
فهي لا تصف مدى تحكم المستعمر في مقدرات البلاد واستنزاف ثرواته، وما لحق بالبلاد من دمار وضحايا لنيل الاستقلال، بل وتمضي في تشابه يكاد يصل إلى حد التطابق، مما حاق بتلك البلاد من انتكاسات ومآسٍ في عهد الاستقلال، وكأنما هي استجارت من الرمضاء بالنار!... «الرجل الكبير» كما يسمى، هو زعيم البلاد، الوطني الفذ، الذي تربع على عرش السلطة، بعدما تسلل إليها معتلياً أكتاف الجيش، ما لبث وأن استبد، ليفرض على شعبه تبجيله إلى حد التقديس!.. تماثيله تملأ الساحات وصوره تتسلق أعلى جدران المكاتب والمطارات، بمختلف المقاسات والأزياء والأشكال...
فتارة في زيه الوطني.. وتارة في بزته العسكرية.. وثالثة في بدلته الباريسية ورابعة.. وخامسة!.. الصحف لا تمل ولا تكف، عن إبراز صوره الملونة على صفحاتها الأولى، فهو لا يتوانى في سبيل حملاته الدعائية لاكتساب الشعبية، عن إنزال ركاب رحلة طيران داخلية مثلاً، ويتأخرون ساعات، لمجرد أن تصوره الصحافة وهو يقوم بزيارة تفقدية، لقريته أو مناطق نائية!.. وما أن انهمرت الثروات إثر اكتشاف مناجم ضخمة للنحاس، حتى أزاحت عمولات الصفقات والمحسوبية، بريق الشعارات الثورية، فكان أكثر المستفيدين منها هم أهل ورجال الزعيم والمداحون!.. امتلأت المخازن والمعارض بأفخر البضائع الأجنبية، وازدحمت أرفف المتاجر بالمعلبات والأغذية المستوردة من شتى أنحاء العالم، لتلبية احتياجات عمال ومديري شركات، كانت في معظمها من ذات البلد المستعمر.. مفارقة ساخرة، لعل أفضل ما يعبر عنها، خاطر جال «سالم»، مثلما جال بخاطر معظم شعوب العالم الثالث، التي حباها الله بالثروات، عبر عنه بقوله: « ها هو المستعمر يعود من الشباك بشركاته وبضائعه، بعدما خرج من الباب بجنوده ومعتمديه».
«سالم»، شاب في مقتبل العمر، ينحدر من أسرة ميسورة، مشرقية الأصل، من أعرق العائلات المهاجرة التي استوطنت الساحل الشرقي لأفريقيا، هو الشخصية الرئيسية في الرواية، يساعده في سرد أحداثها ثلاث شخصيات أخرى.
أولاهما «أندار»، صديقه المماثل له سناً والمنحدر مثله من أسرة هندية مهاجرة، فمجتمعهم خليط من المهاجرين من الهند وجزيرة العرب وفارس وبقايا البرتغاليين، مما يشير إلى أن الساحل المقصود، وان لم يسمه المؤلف، هو ربما كان المحصور ما بين «زنزبار» و«مومباسا» إلا أن عائلة «أندار» تتميز بثرائها الشديد الناجم عن التعامل بالربا.
ذلك ما يتيح له الالتحاق باحدى أشهر الجامعات في انجلترا، فيما يتجه سالم، ضمن إمكاناته لتجربة حظه في التجارة، بعد أن ابتاع دكاناً لتاجر محنك يدعى «نصر الدين» في بلدة، هجرها بعدما هجرها مؤسسوها المستعمرون تقع في أعماق الغابة الأفريقية... عند منعطف النهر العظيم..!
رحلته في سيارته البيجو القديمة، المكتظة بالبضائع، لا تخلو من طرافة معبرة، فهو يضطر لدفع أتاوة لرؤساء القبائل التي يمر بأراضيها، تبدأ بطلب دفع لمبلغ ألفي دولار، لتنتهي لما بين (5 10) دولارات فقط.. في تشابه عجيب لما يدفعه المسافرون مقابل استخدامهم الطرق السريعة في بعض الدول المتقدمة!..
ثاني الشخصيات، هي «زابت» المرأة الأفريقية المكافحة، التي تعاني من الأمرين، وتخاطر بحياتها كلما جاءت إلى البلدة من قريتها، لابتياع، بضع بضائع من دكانه، لتعود للمتاجرة بها في قريتها مقابل لحوم القردة والتماسيح المقددة.. ربما كانت ترمز الى شعب أفريقيا الأصيل، مثلما يرمز النهر العظيم إلى قارة أفريقيا الزاخرة بالخيرات، ومنعطفه الذي تقع البلدة عند طرفه، إلى ما تمر به القارة من منعطف تاريخي خطير، ليس له في تاريخها نظير!..
الشخصية الثالثة، شخصية معبرة عن ظواهر المعاني.. فالأستاذ الجامعي الأجنبي «رايموند»، مستشار سابق للزعيم الأوحد، مغضوب عليه ومبعد، لتخطي زوجته البلجيكية الشابة تقاليد البلاد، ورغم أنه يحتفظ بصناديق مليئة بوثائق تحكي تاريخ البلاد السري، التي يتوق للاطلاع عليها المؤرخون، إلا أنه يكتمها حفاظاً على منصبه، بعد أن عجز عن العثور على وظيفة في بلده!.. فلم يعد له من عمل سوى كتابة الأقوال المأثورة للزعيم، والتي لا تجد من يشتريها حين تصدرها حكومته في كتيب صغير.. سوى مؤسسات الزعيم ومكتباته الوطنية!..
يفاجأ «سالم» بعودة صديقه «أندار» بعدما أعتقد أن سفره لانجلترا كان بلا رجعة.
عودته كما أخبره كانت اضطراراً لا اختياراً، فرغم حصوله على الشهادة الجامعية، إلا أنه لم يجد له وظيفة هناك سوى الانضمام إلى فرقة مسرحية متنقلة، لا يعطونه فيها سوى أدوار محصل أجرة ركوب الحافلات أو طبيب هندي متهم بالاغتصاب، أما بلده الأصلي الهند فقد أغلق مكتبها في لندن في وجهه الأبواب.. فلم يعد أمامه سوى القبول باحتواء وخدمة زعيم البلاد رغم استبداديته كحال العديد من المثقفين.. طمعاً بالراتب المجزي والمنصب!...
بعد قضائه سنين في تلك البلدة النائية، هارباً بأفكاره من حالة البلاد المتدهورة إلى ماضيها البعيد، حينما كان العرب يحكمون، مفتخراً بأن ملاحاً من ساحلهم، هومن قاد ودل أول مستكشف برتغالي إلى الهند، وبأن القارب العربي الثلاثي الأشرعة المزين لطوابع البلاد، هو من علَّم الأوروبيين استخدام الشراع المثلث، الذي لولاه ما اكتشفت قارة اأمريكا!.. ولكن هيهات، فالحاضر المؤسي سرعان ما ازداد سوءاً، مما أجبره بعدما استولت الدولة على مؤسسته وعينت مفتشاً صحياً مديراً له، أن يهاجر إلى لندن خاطباً ابنة «نصرالدين»، الذي دعته حنكته لأن يسبقه مهاجراً بأمواله، هرباً من بيروقراطية وتعنت وفساد دولة الاستقلال، فيها تتاح له حرية الاستثمار بكرامة في الدول الغربية. ولا يخفى ما في ذلك من رمز إلى هروب رؤوس الأموال، والعناصر الشابة الخبيرة فراراً مما تلاقيه في أوطانها العالم ثالثيه من جور ودكتاتورية.. قصة معبرة، لا تنقصها الحبكة والاثارة في الكثير من تفاصيلها.. وكان ربما فوزها بالجائزة الأثيرة، هو لمدى صدقيتها في التعبير عما يعانيه الكثرة الغالبة من بلدان العالم المتخلف!!.
|
|
|
|
|