| مقـالات
والأوضاع القائمة التي بلغ فيها السيل الزبى، لا تحتمل الفوضى باسم «حرية الكلمة»، ولا تعدد المشيخات والقيادات الفكرية والدينية باسم «حرية الفكر» وضرورة «الاجتهاد»، إذ لم تعد الأمة قادرة على احتمال مزيد من التحزبات لرأي أو قول، ولا للتجمعات حول متقحم بآرائه ورؤاه وتصوراته، ولا لتصنيم الأشخاص وتهميش القضايا. إذ ليس لدى الأمة المثخنة مزيد جهد كي تقعر الرؤية حول القضايا الفرعية وتلهو بالهامشيات التي لا تغير مجرى الأحداث بإهمالها أو بأعمالها. وليس من مصلحة الأمة كثرة الجدل حول المذهبية واللامذهبية، والمقدم والمؤخر من الأقوال. والجبهة الداخلية حين يجتالها المتنطعون والمتفيهقون والمماحكون والغالون في دينهم أو في أفكارهم ثم يؤدي ذلك إلى ارتباكهم وسط تضارب الآراء، وتناقض التصورات، تشكل عبئا ثقيلاً على أصحاب القرار، وتصبح عرضة للانفجار في أي لحظة، لأن الخلاف مع غياب المرجعية وتعدد القيادات الدينية تضخم القابلية للفشل وذهاب الريح، وتكون الأمة هدفاً للدسائس واللعب السياسية، والكائدون للأمة يمدونها بما يشغلها عن معالي الأمور، ويستغلون أبناءها الفارغين للجدل والفارغين من المعرفة بمجريات الأحداث. والذين يثير انتباههم كثرة الهالكين من حولهم، لا يعرفون ضلوع المستعمر في أدق تفاصيل الحياة، والوعي المتشكل من الفيض الإعلامي ليس مؤهلا لتداول الرأي، فضلا عن التصدر للقول المؤثر على مجريات الأمور.
وليس من شك أن بعض ما تعانيه القيادات من تفلت الرأي العام إنما مرده إلى البون الشاسع بين ما يقال في الإعلام وما هو كائن في الواقع، حتى لقد كدنا نتصور المتداول من القول على كل الصعد «قصيدة كلثومية». وقد كانت الرضة «الحزيرانية» مؤذنة بغياب هذا الصوت، وكاشفة للمفارقة بين الخطاب الإعلامي والواقع العربي، غير أن دابر التآمر لا ينقطع إذ الذين اتخذوا طريقهم إلى السلطة محمولين بمحفة اللعب السياسية لا يقدرون على اعتزالها، ولا على قول الحق، ولا على الفعل الخالص من الشوائب، لارتباط مصائرهم بمن مكن لهم. وصنَّاع الزعامات يوقعون العداوة والبغضاء بينها وبين من تلي أمره، ليسهل تأديب إحدى الطائفتين بالأخرى، والمصنوعون حين يكونون ممثلين أغبياء يفوتون على بلادهم فرص النماء والاستقرار، وكل لاعب بالإنابة أو بالأصالة يشرعن للعبته باسم الدين، أو باسم القومية، أو باسم الحرية، ويهيل على الأطراف الأخرى تراب الذل، ثم يجد من يقبل بهذه الكذبة السوداء، معرضاً أهله وعشيرته للهيب الفتن، محملاً دولته أعباء التطهير، مثبطاً عن فعل إيجابي يدرء الشر.
وقد مرت المشاهد العربية بزعامات فاقعة اللون، استهوت الخليين، وصعدت لغط الرهانات، وعند انجلاء الغبار تقطعت بالمراهنين الأسباب. والمؤلم سريان تلك الخطابات كالخدر في أوصال البعيدين عن دخن الفتن، وما ينشئه من تناحر لا يبرح فيوض الطرح الإعلامي، والعراقة السياسية المتجذرة مع الزمن، والمشروع الأيديولوجي المستجيب لحاجة الأمة، البعيد عن الصدام والإثارة مكتسب لا يجوز التفريط بشيء منه تحت أي ظرف. والطوارئ وإن كانت تتسم بذات الصبغة الدينية لا يمكن أن تتشكل بمعزل عن المشروع العريق المجانس، ما دام الدخول في المعمار الأصل والعمل من خلاله ممكناً. و علينا لكي نستبين الفواجع والبواقع ونحسب ألف حساب لكل رؤية جديدة أن نقرأ غيضاً من فيض الكتب التي نُسيت في غياهب الفتن وغيابة اللعب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :«لعبة الأمم» و «من يجرؤ على الكلام» و «لا سكوت بعد اليوم» و «تنظيم الغضب الإسلامي في السبعينات» و «اللعبة واللاعب» و «ألغام في طريق الصحوة الإسلامية» و «بؤر التوتر في العالم» و «الإرهاب والإرهابيون» و «الأصولية الإسلامية في العصر الحديث» و «الإرهاب إسلام أم تأسلم» و «الصهيونية والعنف» وسلسلة «العنف الأصولي» و «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» و «على مشارف القرن الحادي والعشرين» و «الصراع بين التيارين الديني والعلماني» و «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي» و «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» و «غطرسة القوة» ومذكرات الساسة، والعسكريين، ورجال الاستخبارات في الشرق والغرب، وما قامت به من تصفيات علمية وسياسية وقضاء على مشروعات عسكرية وسلمية واقتصادية، وتحليل الوثائق السرية المفرج عنها، و «الغليان» و «الانفجار» لهيكل، و «تزييف الوعي» و «المفترون» و «حمى سنة 2000» وصراعات المفكرين، وتناحر المذهبيين، وجدل المارقين، وعلينا استعادة المشاريع «الأيديولوجية» ومصائر زعمائها، وصدامات المتبادلين للمواقع فيما بينهم وصدامهم مع مراكز القوى المهيمنة، وتعدد الخطابات والانتماءات، وما تبديه من ظواهر الرحمة، وما تلوح به من مغريات، والقراءة الحيادية لما ذكر ولتاريخ الحركات المتعددة كاف لمراجعة النفس، ففي كل ذلك تكمن الدروس والعبر.
والذين يتهافتون على الصراع، ليسوا على شيء من معرفة خلفياته، فأكثرهم مثاليون مصدقون وصادقون، أو هم وصوليون ميكافيليون، ومنهم من إن تسأله عن حيثيات رؤيته لا يدري ما هي، وما السياسة، وقد يكون همه محصوراً في رغبة الحضور ضمن دائرة الأضواء، و ذلك أضعف المطالب. ويستطيع الواعي أن يستبين هذه الفئات مثلما يعرف أسلوب توقي النوازل وتلقيها، والتعامل معها. وحين نحذر من تلك البوادر، نعرف الأكفاء من الساسة ونحفظ لهم حقهم، ونعرف لعلماء ومفكرين إسهاماتهم المعرفية والفكرية ممن قضى نحبه، وممن ينتظر، ونعي ما تركوه من كتب. وما عرف عنهم من سير عاطرة شاهد على سلامة مقاصدهم، فنحن لا نريد أن نبخس أحداً حقه، ولا نسعى للإحباط والتشكيك والتيئيس، فالأمة الإسلامية ولود ودود، والطائفة المنصورة قائمة، وستظل قائمة حتى يأتي أمر الله.
والتحذير من المزالق لا يقتضي السكوت وكتمان الحق، ولايعني العدول عن المراجعة والمساءلة، ولكن هناك فرقاً بين المراجعة والمرافعة، وبين اختلاف وجهات النظر وتعمد التخوين والاتهام للآخرين. وجدير بنا وقد ادلهمت الأمور واستحكمت الشدائد أن ننظر بعين البصر والبصيرة إلى أوضاع الدول التي رضي قادتها تنفيذ اللعب السياسية على أرضها باسم الدفاع عن الثغور أو القضاء على الرجعيين والدكتاتوريين، وأن نستعيد الخطابات الثورية، وأن نستعرض معطيات المصطلحات المتداولة ك. «اللبننة» و «الصوملة» و «السودنة» و «الأفغنة» وما تنطوي عليه من مآس. وعلينا أن نتأمل ما آلت إليه أحوال الشعوب المغلوبة على أمرها من تشرد وضياع بين المنافي والسجون والمقابر والملاجئ ودور المعوقين، وما بلغته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من ترديات لا مزيد عليها، كل ذلك، ومثله معه، يحمل على التفكير الجاد قبل القول في الأحداث المتلاحقة، والاختلاف حولها. وفي الحديث المقتضب لأوهام النخبة تحدث الدكتور «علي حرب» عن خمسة أوهام، يهمنا منها «وهم الحرية» وهي المزلق الأخطر، لأن الذين يتحركون في ظل مشروعيتها لا يفرقون بينها وبين «الفوضوية» التي أصبحت فيما بعد مشروعاً له أصوله ودعاته منذ أن ألف كتاب «ضد المنهج» ولحق بصاحبه من أوغل في هذه المهايع. والحرية حين تفهم على غير وجهها تكون أخطر من «الدكتاتورية» والاستبداد. لقد تداول البعض كلمات خطيرة وحساسة، وجعلوها شعاراً لمفهوم الحرية، مثل مقولة قاسم أمين:«الحرية الحقيقية تحتمل كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب». وتعريف الحرية بهذه العبارة تفضي في النهاية إلى «اللادينية» و «اللا أخلاقية» بل و«اللاإنسانية» إذ التجمع الإنساني يقتضي عقداً اجتماعياً، يحتمي به كل متعايش. فالدول «الديموقراطية» تنتخب من تذعن له، والدولة الإسلامية تبايع من تسمع له وتطيع في غير معصية الله. والإذعان والسمع والطاعة ينتج «الحرية المنضبطة» التي فقدناها في ظل «المغالين» و «الحداثيين». ولعل أخطر ما يواجهه العالم المستضعف ارتباكه في فهم ثنائية «الحرية» و «السلطة» وحين لا يكون المعول عليهم على فهم جيد لحدود مفردتي: الحرية والسلطة فإن الكارثية لن تحل قريباً منهم، بل ستكون وسطهم، ولقد عالج المفردتين أساطين العلم الشرعي وعمالقة الفكر الحديث وكبار الساسة، وما من متقحم لهذه المهايع أخذ نفسه بجد المتابعة لمعرفة أدنى حد من متطلبات القول في قضايا السياسة.
والعالم المضطرب في أحواله، المتوحش في تعامله، المقتدر بوسائله: الراصدة والمدمرة، لا يتحمل مسؤولية أطره على الحق من تحيط به الفتن من كل جانب، ولا من هو ساع بماله على المشردين، ولا من هو موظف كل إمكانياته لتخفيف الأعباء عمن يواجهون شواظ الحقد ولهيب الضغينة، وكيف يسوغ كاتب أو عالم أو مفكر أو خلي حدث السن لنفسه زج مقدرات الأمة لمواجهة الطوفان، وتحمل مسؤولية الترديات، والعمل العازم على إرجاع كل آلة حرب إلى قواعدها، وهل المواجهة في ظل هذه الظروف المتردية مطلب لا ينظر معه إلى الامكانيات والعواقب الوخيمة؟ وليس من العقل أن يتصرف البعض على أساس ان القادة قادرون على حمل الكون، وما يعج به من فتن، على ما يريد من عدالة «عمرية» واستقامة «سلفية»، بين غمضة عين وانتباهتها، وكيف يتأتى التدخل، والأخ يقتل أخاه، والشقيق يخوِّن شقيقه، والجار لا يأمن غدر جاره، والحروب الطائفية والقبلية والحدودية قائمة على أشدها، والعالم العربي والإسلامي يترنح من مغامرات أبنائه، وصلف قادته، ومكائد أعدائه؟. وكل الخسائر التي تتعرض لها دول العالم الثالث تصب في خزائن الأعداء. إن علينا الدعوة بالحسنى، وإصلاح ذات البين، وليس من حقنا شرعنة حرب غير متكافئة، أو تبرير أي فتنة عمياء يفجرها من لا مثمنات له يخشى نفوقها، وما علينا من حق لمن رضي أن يجعل أرضه وأهله مسرحا لصراع المصالح وتصادم الاستراتيجيات وتصفية الحسابات.
وليس من حقنا ولا من مصلحتنا تسويغ الإرهاب الذي لا يقمع معتد، ولا يرد مظلمة. وفي الوقت نفسه يجب أن نميز بين «الإرهاب» الحقيقي الذي لا يحتمل إلا تصورا واحدا، و «المقاومة» المشروعة لردع ظالم عن مظلمة واستعادة حق مشروع لا خلاف حول أحقيته. وعلى كل الأحوال فإن ضبط النفس واستنفاد كل الوجوه الممكنة سلميا أفضل من الاندفاع والتهور.
وتجربة مؤتمري «الطائف» و «مكة» وتشكيل اللجان والجمعيات لجمع التبرعات وتصدير الإعانات للدعم السلمي وإنشاء المراكز وعمارة المساجد ودعم الجماعات السلمية خير مثال للنهوض بمهمتنا الحضارية، بوصفنا مسلمين، نتداعى لآلام إخواننا في آفاق المعمورة. والأوضاع القائمة بحاجة إلى من يعالجها لا إلى من يواجهها ويؤججها، والمريض المقعد لا تتلَّه بيده، ليركض برجله، ولكن تجلسه برفق، وتعرف داءه، ثم تبدأ بعلاجه، لينهض بنفسه، ويمارس مهمته باقتدار، وإذا كانت الصهيونية تمارس أبشع صور الإرهاب على مرأى ومسمع من العالم وبتمويل منه، ثم لا تجد من يردع طغيانها من دول التحكم بمصائر الشعوب، فإن من واجب الأمتين العربية والإسلامية الخروج بموقف جماعي مرحلي مستطاع، يحسب له الأعداء حسابه، لا يتهورون بفعل غير مأمون العواقب، ولا يجازفون بقول غير مستطاع التنفيذ، ولا يهيجون الرأي العام الذي أصبحت له أهميته في السلم والحرب، وليس من العقل الاستخفاف به، وعند المبادرات يجب أن ننظر إلى الأسباب التي آلت بالأمة إلى هذا الوضع، إذ المؤسف أننا بلا ذاكرة، لا نستعيد الأحداث، ولا نقرأ التاريخ الحديث، ولا ننطلق في آرائنا ومواقفنا من خلفية معرفية رصدية، ولا نعترف بأخطائنا، ولا نحذر من مقولات قلناها ثم تبين لنا فيما بعد خطؤها، نسأل الله هلاك الأعداء، ولا نسأله صلاح الفساد، نلعن الشيطان ولا نستعيذ منه، وحين تنهض الأمة بما تقدر عليه، يكون في ذلك معذرة إلى الله، ولعله يكتب النصر، ويكشف الضرَّ، وما تمارسه الدولة من ضغوط عبر قنواتها جهد المقل، وما تدفع به من إعانات عبر مؤسساتها واجب المستطيع، والمؤمل المزيد من هذا وذاك، وليس من حق أحد أن يدفع بمقدرات الأمة في مهاوي الردى. والله العالم بالضعف خفف على رسوله وعلى أمته، ولم يحمِّل أحداً منهم تحقيق النتائج «ليس عليك هداهم» «إنك لا تهدي من أحببت» «ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً» «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً» «إن أنت إلا نذير» «ليس لك من الأمر شيء». وإذ لم يلزمنا بالنتائج، فقد ندب إلى فعل الأسباب، وحدد إمكانية الفعل ومشروعية الاتقاء: «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً» «إلا أن تتقوهم تقاة» « لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ومن الدعاء «ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به».
إن أحداث العالم فوق الوسع وفوق الطاقة، وهي تنذر بمستقبل مخيف، وفتنة عمياء، ولمَّا يتعظ العالم الثالث، إذ ما يزال مسرحاً للفواجع، وميداناً للتصفيات، وساحة لتجارب السلاح، ومجالاً لتنفيذ اللعب السياسية. والإعلام الغربي الذي ذاق بعض غوائل الإرهاب بعد أمن، ومسته ضوائق الاقتصاد بعد رخاء، وانكشف ضعف تحصيناته بعد ادعاء، وطالته جرائر فعله ونتائج سياساته غير المتوازنة وغير العادلة، يشن حملات مريبة، على بلاد وفت بعهودها، وتجرعت ويلات الإرهاب من قبله، وواجهته بوضوح وقوة، بلغت قطع الرقاب، وإسقاط الجنسية، و استنكاره على لسان مرجعيتها الشرعية، ولم تفرق في مواجهته بين إرهاب يستهدف المواطن أو المقيم. فالذمي عندها له حق الأمن، و «من آذى ذمياً فقد آذاني» و «من قتل ذمياً لم ير رائحة الجنة». وحين يحرض الإعلام الغربي القوة المتغطرسة على الضاعن والمقيم، ويحفز المتجبرين على التدخل في الصميم، وتمتد نظرة الغرب المريبة إلى الثوابت والمصائر من : مناهج، وثروات، وتحكيم للشريعة، وحق السيادة، يأتي دور القادرين من علماء ومفكرين وأدباء وإعلاميين، لتشكيل جبهة داخلية، متماسكة، ملتفة خلف قادتها، محتمية بمؤسساتها، مؤازرة في التصدي للحرب الإعلامية الشرسة، متعاذرة عند اختلافها، لكي تكون مواجهتها حضارية، وخطابها متزناً. والأوضاع العالمية المتوترة لا تستدعي مزيدا من المشاققة، بعدما تبينت المقاصد والنوايا، وأصبحت مشروعية التدخل العسكري لتقليم الأظافر وحفظ التوازن وتحديد مواصفات الزعيم من الأمور المألوفة، وتلك بوادر خطيرة ما عهدناها من قبل، وليس فوقها من خطورة.
وعلى الأمة والحالة تلك أن تتخذ الأسباب المأمور بها من إعداد الإنسان قبل القوة، وأخذ الحذر قبل المنازعة، وأن تستعين بمن وعد بالنصر «ومن أوفى بعهده من الله». ولكن بعد استقامة على المأمور، وتغيير لما بالأنفس، فحق النصر الذي أوجبه الله على نفسه للمؤمنين لا يتحقق إلا بذلك، وما نعظ به، لا يسلب حقاً، ولا يعطل حرية، ولا يمنع واجباً، ولا يخون مجتهداً فاته الصواب، ولا يعمق خشية، ولا يؤصل خوفاً من عدو متكبر متسلط، ولا يمنع من مساعدة مسلم متضرر بالقول أو بالفعل. وإنما لكل مقام مقال، ولكل ظرف خطاب، «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا». والزمن زمن السكينة والتهدئة واجتماع الكلمة، والدفع بالتي هي أحسن، زمن الالتفاف، والتعاذر، وحسن الظن، زمن اللجوء إلى الله، فهو الذي يدبر هذا الكون، وهو المدافع عن الذين آمنوا، وهو الذي بيده نواصي الأمور، زمن الارتداد إلى الداخل، وترتيب البيت، وإعداد أبنائه لمواجهة الحياة العصبية زمن التصرف الحضاري، والفعل الواعي لمجريات الأمور، و «فوكوياما» أوجز قواعد النجاة لأصحاب المنهج الواقعي بأربع قواعد: «توازن القوى» و «اختيار الأصدقاء» و «القدرات لا النوايا» و «فصل كل الأخلاقيات عن السياسة عند التقويم» ونحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في كل شيء في القوة والأخلاقيات والأصدقاء. فالحادي عشر من سبتمبر حد فاصل بين حياتين مختلفتين، وهو كما السابع من حزيران، الذي كشف الغمة، وفضح الخطاب العنتري. وما نرجوه من الله، لا يمنع من أن نحسب كل الحساب للأسباب والسنن. نعد القوة: قوة الفكر، والاقتصاد، والعلم، والسلاح، والإنسان، والتعاون على البر والتقوى، والاعتصام بحبل الله. وعلى قادة الأمة، وقادة الفكر أن يعوا متطلبات المرحلة الحرجة، فعند الأزمات لا بد من القوة والعدل، وإعلان حالة الطوارئ، ليكون الخطاب غير الخطاب، والموقف غير الموقف. فالصلف الخطابي في المواجهة تحريض لغطرسة القوة، وتفرق العلماء والمفكرين وإعجاب كل ذي رأي برأيه والتنازع فرصة الأعداء المتربصين. والجنوح إلى السلم، و الدخول فيه، تحرف مشروع، ومصير منطقي، ومن وجه فوهة بندقيته إلى خصمه، فعليه ألا يترقب من يرشقه بالتين والزيتون، ولا من يتولاه بالرأفة والرحمة، وعليه أن يستعد لمواجهة تزهق الأرواح، وتحرق الأرض، وتشعل الفتن، وتخيف الآمنين، وتشرد المستقرين، وتدفع بالانتهازيين، وتدفع إلى تصفية الثارات وبعثرة الملفات. و من فكر وقدر، ثم لم يضع في اعتباره الاستعداد لهذه الكوارث، فهو كمن يحلم. والذين يتقحمون المنابر، وينتشرون في المواقع، ويتصدرون المشاهد، لا يقدمون مشروعا، ولا يقدرون عدة ولا عتادا، وأقصى ما يملكونه الاهتياج العاطفي الأعزل، والرهانات غير المقبوضة «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا»، وما نشاهده الآن من إرهاب دولي، وانتهاك متعمد لحرمات المسلمين، يحفزنا على التساؤل «متى نصر الله»؟ ويحفزنا على ترقب الفرج بعد الشدة «حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا« «وما النصر إلا من عند الله».
لقد ابتلي الأنبياء فصبروا، وابتليت أقوامهم فاتقوا واحتسبوا، وحورب الإسلام بصنوف المكائد من إفك، وتشكيك، وإثارة للعصبيات، وإغراء، وإغواء، وإغراق في الشهوات، وصد عن الذكر. وعرف المسلمون جذور البلاء، وثقافة الضرار، وأجنحة المكر، معرفة لا شائبة فيها. فما اعتزلوهم، وما جودوا فقه التعامل مع المخالف، ففتحوا بجهلهم أكثر من ثغرة، وأغروا بصلف خطابهم أكثر من عدو، وأتاحوا بموالاتهم أكثر من فرصة للمكر والمكيدة.
والأخطر أن يختلف المتخندقون في خندقهم، والناصرون لله حول نصرتهم، فذلك البلاء المستطير. هذا ما أقول وما سوف أواجه الله به، وأجادل فيه عن نفسي متوقعاً صحته، وما أردت إلا الحق والإصلاح ما استطعت، ومن وجد خيرا مما أقول فليفض علينا من صوابه.
|
|
|
|
|