| مقـالات
نعم اختطاف ابنة من بين والديها، ولكن برضاهما ومباركتهما أيضاً هذا مايحدث كل يوم في مجتمع العلاقات الاجتماعية في كل بلاد الدنيا. وعندما يتأمل الإنسان العاقل هذه الوشائج الاجتماعية التي تنظم العلاقات بين الناس يستبد به العجب العجاب فهذه العلاقة تبدأ من رجل وامرأة زوج وزوجة ثم تتعدد الخطوط وتتشابك الخيوط لتشكل شبكة عنكبوتية بعيدة المدى لايعرف أولها من آخرها.
إنها حكمة بالغة من الحكيم الخبير تؤكد لكل إنسان أنه مهما حميت عصبيته ومهما بلغت ذروة سنام فخره ومهما وصل إليه مجده فهو وليد هذه العلاقة علاقة الذكر والأنثى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات الآية 13. فهو في ظلال هذا الركن الركين والأساس المتين لايجد أمامه سبباً للطغيان أو إهدار كرامة الآخرين.
والعلاقة الإنسانية كما أنها ضرورة لعيش الإنسان إذ إنه بطبيعته وفطرته ميال للاجتماع. فهي كذلك علاقة متشابكة لايستطيع الإنسان السوي أن ينفك عنها، ولايستطيع ان يستغني عن أفرادها؛ لأنه محتاج إليهم كما أنهم محتاجون إليه لبناء مجتمع سوي متعاون.
هاهو الأب يربي ابنته وينفق عليها ويكد ويكابد لأجلها ليوفر لها العيش الرغيد ثم حينما تشب وتتفتح بتلاتها يخطفها منه الزوج المرتقب ويسلمها له وهو أسعد الناس لأنه يرى ان ابنته ستكون سعيدة مع هذا الخاطف المحبوب!!
وتربي الأم ابنتها وتكون مستودع أسرارها وتظل معها في كل صغيرة وكبيرة ثم حين تبلغ المبلغ الذي يحين فيه قطافها يخطفها منها ذلك الخاطف المرتقب فلا تملك إلا ان تودعها بالبكاء الذي تختلط فيه عواطف الفرح لفرح ابنتها بعواطف الحزن على فراقها ولوعة الأسى على فقدان تلك اللحظات التي تجدها فيها قريبة منها.
ثم تصبح ابنة أبويها مثل الشجرة حين تتطور من نبتة صغيرة إلى شجرة ضاربة في عمق الأرض تمتد جذورها في المكان الذي انتقلت إليه حتى يكاد يكون ارتباطها بمجتمعها الجديد أشد التصاقاً من مجتمعها القديم في بيت أبويها..
أليسوا في الغرب يغيرون اسمها لتحمل اسم الزوج بدلا من اسم أبيها؟ ولكن لأن في الإسلام دعاء الأبناء إنما يكون لآبائهم فحسب بحكم أنه الأقسط والأعدل فإن ذلك لايمنع ان تصبح هذه الغريبة أماً لجزء من أسرة الزوج بعد انتقالها إليهم فلايعرفون إلا بها ولاتعرف إلا بهم: أم آل فلان!!
وهكذا الأب يشقى ليوفر لابنه سبل الراحة والعيش الكريم وعندما يشب عن الطوق ويبلغ مبلغ الرجال تتطلع نفسه إلى تلك الغريبة عن الأسرة ليجلبها إلى الأسرة الصغيرة فتكبر بها وتلتصق بها حتى يصرف ذلك الابن جزءاً من الوقت الذي كان يصرفه لأبويه لهذه الغريبة وقد يصرف كل الوقت لها فينشغل عن والديه بها.
وهكذا هي الأم تغمر ابنها بعواطفها ودعواتها ثم حين ترى فيه أنه بلغ مبلغ عقد الأمل تجده قد جلب غريبة إلى منزلها بمباركتها ودعواتها بل وتتولى هي نفسها تهيئة البيت لها لأنها ترى فيه سعادة ابنها الحبيب.
من المؤكد ان هناك من البنات من تنسى والديها بعد الزواج فتنشغل بزوجها وبمشاغلها عنهما ولكن الغالب ان الزواج وإن كان قد تسبب في بعد الابنة عن والدتها ووالدها إلا انه لايمنع وصلها لهما ولايحرمها من دعائهما. وكذلك فإن زواج الابن وإن كان قد أخذ جزءاً من وقته لبيته الجديد إلا انه لايقطعه عن والدته ووالده والبر بهما والفوز برضاهما.
وهناك أمر لابد من الإشارة إليه لأن له تأثيراً في سلامة العلاقة الأسرية ودوام استقرارها ألا وهو واجب الوالدين تجاه نصح ابنهما أو ابنتهما المقبل على الزواج. وفي التراث العربي درر مضيئة وجميلة وثمينة من وصايا الآباء والأمهات للأبناء والبنات المقبلين على حياة زوجية جديدة من المفيد جداً ان تضمها نصاً وشرحاً وتربية كتب المقررات المدرسية وهدايا الآباء والأمهات والأصدقاء والصديقات للعرسان الجدد.
إن من المستعصي على البيان وصف لحظات وداع الأب والأم لابنتهما وهما يزفانها إلى بيت عريسها فتلك لحظات مثقلة بالزخم العاطفي الذي تجمعت روافده في الذهن ثمرة التفاعل مع اللحظة التي ولد فيها وسط لوحة ذهنية تعب كل منهما في رسم خطوطها وملامحها بعواطفه وانفعالاته. ولكن العجيب ان واحداً منهما لايستطيع ان يتعرف على الحاجز بين الفرح والحزن من مشاعره وأحاسيسه في تلك اللحظات ليستكثر أو يستقل من أي منهما.
كما ان من الصعب جداً استكشاف الحاجز بين الفرح وبين الخوف من صعوبة التأقلم مع القادم المجهول في مشاعر العروس حين تزف إلى عريسها في مجتمع غريب عنها. وهو ذاته شعور العريس نحو عروسه الذي يجد نفسه قريبا منها لأول مرة لتكون مستراحاً لعواطفه التي تعود ان تنهمر تجاه والديه ومن حوله فقط.
من الملموس فطرة وواقعاً ان العواطف تقرب المسافات بين الأشخاص والأنفس مما يوحي بأن عملية التأقلم مع الواقع الجديد قد تكون أسهل وأسرع ولكن من المؤكد كذلك ان الإنسان مهما بلغت درجة استعداده مركب في طبيعته وفطرته من الاهتمام بحساب المستقبل بكل أبعاده الممكنة.
إن تلك المشاعر المتوالدة والمتضاربة أحياناً تجعل عملية وصف العلاقة الأسرية الجديدة صعبة جداً وغير دقيقة أبداً لأنها تتعلق بطبيعة وخصائص كل شخص مما يختلف فيه الناس كثيراً فيقوى جانب من جوانب التفاعل عند هذا ويضعف ذات الجانب عند ذاك والعكس كذلك في جانب آخر وهكذا..
والعلاقة الأسرية بتفاعلاتها وتداعياتها داعية المتأمل ان يتأمل السر في أن الله عز وجل قرن حقه سبحانه وتعالى في العبادة بحق الوالدين (وقضى ربك ان لاتعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) سورة الإسراء الآية 23 تعظيماً لحقهما في البر والصلة لأنهما سبب وجود الولد من ابن أو ابنة أساساً ولأن هذه العلاقة قد تطرأ عليها طوارئ تشغل عنها كالزواج مثلاً فناسب ترتيب عظيم الثواب على هذه العلاقة لكيلا ينشغل الإنسان عنها بالكلية.
وتأمل كيف ان المجتمع كله يشارك في بناء العلاقة الأسرية المتجددة من خلال الحث على إعلان الزواج والوليمة له؛ فكل مدعو من طرف أهل العريس أو العروس يضع لبنة من لبنات الخير بالوصل وإجابة الدعوة وإظهار التعاطف مع فرحهم؛ لأن التعاطف عنوان الوجدان والمشاركة الظافرة بالخير ثمرته ودليله.
ثم هو يهنئ العروسين وأهلهما ويدعو لهم، والدعاء عبادة من أفضل العبادات فالله مستغن عن عباده يفرحه لجوؤهم إليه وعلمهم أنه قريب مجيب الدعوات.
ثم تأمل أخي القارئ الكريم هذه المرأة الغريبة تذهب من بيت أبيها إلى مجتمع غريب عنها وحيدة وبعيدة عن المجتمع الذي اعتادت عليه وتربت فيه؛ يفصل بينها وبينه جدر من ورائها جدر ثم تجد في المجتمع الجديد من يؤانسها ويهيىء لها السبل كي تندمج في عالمها الجديد اندماجاً تاماً فذلك تحقيق وعد الله عز وجل للمجتمع الأسري (ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) سورة الروم آية 21.
إن العلاقة الأسرية التي نعيش أحداثها وتتجدد بين الحين والآخر بدخول أطراف جديدة أو مغادرة أحد أطرافها إلى علاقة أسرية أخرى هي في مجملها علاقة مليئة ببواعث التفكير والتأمل في قدرة الله عز وجل وعظيم أمر حكمته جل جلاله وحسن تدبيره للعلاقات ا لإنسانية وفتح السبل التي تشيع في المجتمع روح المودة والرحمة والإخاء لمن تأملها حق التأمل.
لو وعى الناس كل الناس هذه الحقيقة بما فيها من آيات التفكير والتأمل لاستقامت حركة المجتمع كله على الخير والعطاء والبر والإحسان. غير ان حكمة الله العليم الحكيم اقتضت ان يكون الناس مختلفين في تفكيرهم وفي قدراتهم ليقضي أمراً كان مفعولاً ليحيا من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
من خواطري الشخصية
يستأثر بتعجبي حرص الإنسان في تعامله مع الجواهر الثمينة؛ حيث يحرقها بنظراته الفاحصة الدقيقة، ويقلبها بين أصابعه، ويحركها في كفه، ويرفعها ويخفضها ليختبر وزنها.. كل ذلك ليتأكد من حقيقتها أو زيفها، وليعرف قيمتها المادية..
سؤالي هو: أليست الكلمات مثل الجواهر الثمينة؟
كم كلمات رفعت صاحبها إلى أعلى الدرجات التي لا تستطيع الجواهر الثمينة ان ترفعك إليها، وكم كلمات فتحت لصاحبها كنوز الجواهر الثمينة بما حققته له من جوائز مادية ومعنوية وعلى العكس من ذلك كم كلمات تسببت في هلاك صاحبها أو خسارته و «رب كلمة قالت لصاحبها: دعني»!!
وإن تعجب فعجب ان تكون الرياح أشجع من كثير من الناس، فالرياح تجري كثيراً بما لا تشتهي الفن، وكثير من الناس يغيِّرون آراءهم ومواقفهم وكلماتهم بحسب ماتشتهي السفن!!
هذا وبالله التوفيق....
alsmariibrahim@hotmail.com
|
|
|
|
|