| مقـالات
وللحديث عن التحول الخامس في وضع الأراضي الفلسطينية رأينا كيف كان اعلان وعد بلفور عام 1917م بداية لفرض واقع جديد وتحقيق حلم يهودي بل مشروع مدروس بدأ مع نهاية القرن التاسع عشر للم شتات اليهود في وطن قومي اختير له أرض فلسطين ليشكل ذلك الحيز المكاني لذلك المشروع. لقد تم الاعتراف والتأييد لذلك القرار من حكومة فرنسا في عام 1918م وأثنت عليه وهي الدولة الثانية بعد بريطانيا التي باركت هذا القرار. واتضح لنا أن الشعب الفلسطيني وبمساندة الشعوب العربية له وبالذات المجاورة بما فيها المملكة العربية السعودية ومنذ بداية الأمر وقوفها مع الحق الفلسطيني رغم المشاكل التي كانت تواجه تلك الشعوب والمتمثل في الاستعمار البريطاني والفرنسي الذي اجتاح تركة الخلافة العثمانية في سوريا ولبنان والعراق. ولكن رغم ذلك صمم الشعب الفلسطيني ومن خلال عقد المؤتمرات ثم الكفاح المسلح ضد اليهود في بداية الأمر ثم ضد الانتداب البريطاني مع مرور الوقت وبالذات في عقد الثلاثينات والأربعينات.. إلا أن الانتداب البريطاني كان ملتزماً ومصراً على تنفيذ وعد بلفور وترسيخ المقومات الأساسية لبناء وطن قومي لليهود في فلسطين. ومن ذلك التدعيم هو السماح بالهجرة لليهود وبأعداد كبيرة منذ عام1918م حيث لم يصل عام 1930م إلا وأصبح عدد اليهود في فلسطين أكثر من مائة وثمانين ألفاً في حين أنه لم يكن يصل في عام 1918م سوى ما يقارب أربعين ألف نسمة. ولا شك أن ذلك كان يعني السطو على الأراضي الفلسطينية وشرائها بطرق مشروعة وغير مشروعة. كما سعوا الى انشاء مؤسسات تعليمية منها الجامعة العبرية وربما كان ذلك في وقت مبكر من بداية الثلاثينات الميلادية من القرن العشرين. وكان لابد لليهود من أن يعملوا على زيادة أعدادهم من خلال تشجيع الهجرة ورعاية الانتداب البريطاني لذلك خاصة مع تزايد المواجهات مع الفلسطينيين الذين كانوا يفوقون اليهود في عددهم بكثير بحكم أن فلسطين تمثل أرضهم. لقد ورد في التقرير السنوي عام 1936م المرفوع إلى الحكومة البريطانية من المندوب السامي عن الوضع في فلسطين وشرق الأردن أن عدد المهاجرين اليهود ازداد بشكل كبير حتى أن عدد المهاجرين اليهود في عام 1935م بلغ اثنين وستين ألف مهاجر مما زاد من غضب الفلسطينيين وزاد من احتجاجاتهم وعصيانهم وتمردهم على الانتداب البريطاني. ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد لموجة الغضب الفلسطينية التي اجتاحت الاراضي الفلسطينية بل تسهيل بيع الأراضي الفلسطينية من قبل الانتداب البريطاني وتفضيل البريطانيين تشغيل اليهود في الأعمال المختلفة عن تشغيل العرب. ومن الأسباب الأخرى أيضاً الرغبة في الحصول على الاستقلال وكذلك تنامي الشعور لدى الفلسطينيين بعدم الثقة في الانتداب البريطاني خاصة بعد تنامي التأثير اليهودي على الرأي والقرارات السياسية للانتداب البريطاني فيما يخص الأراضي الفلسطينية بالاضافة الى ازدياد الشكوك حول المصير الذي ينتظر الفلسطينيين بعد انتهاء الانتداب البريطاني. لقد كثف كل ذلك وزاد من احتقان الوضع ضد الانتداب البريطاني.
نظم الفلسطينيون اضراباَ شاملاً أربك وشل الوضع الاقتصادي والسياسي في فلسطين. بدأ هذا الاضراب في 12 مارس من عام 1936م ولم ينته إلا في 20 أكتوبر من نفس العام بمشورة عربية. لم يتهاون الفلسطينيون في مسألة بيع الأراضي وشنوا حملة قوية على المتهمين بتسهيل بيع الأراضي الفلسطينية لليهود ووضعوا بعض التدابير من ضمنها اجبار بعض ملاك الأراضي ذات المساحات الصغيرة على وقف أراضيهم بحيث يصعب البيع فيها والشراء كما أصدرت المحكمة العليا الفلسطينية أحكاماً بالغاء بعض البيوع لأراض فلسطينية ذات مساحات كبيرة. لقد كان شعار القومية العربية الذي بدأت المناداة ترتفع به في مصر وسوريا والعراق ذا صدى لدى الفلسطينيين وخاصة بعد هزيمة الأتراك وتوزيع تركتها على الانجليز والفرنسيين. الدول المجاورة لفلسطين بدأت تسعى للحصول على استقلالها وكان التصادم على أشده مع الفرنسيين في سوريا كما تم توحيد المملكة العربية السعودية تحت هذا المسمى ولذلك كان طلب الاستقلال مسعى أساسياً لدى الفلسطينيين. كما كان تبني شعار القومية العربية هاماً للفلسطينيين وأساسياً في ذلك الوقت وذلك في مواجهة القومية اليهودية التي بدأ أنصارها في العمل على احيائها على أرض فلسطين التي توافدوا اليها من أقطار عديدة وبالذات من ألمانيا وبولندا بعدما ظهرت المضايقات والضغوط الاجتماعية والاقتصادية عليهم من قبل الألمان. وعلى هذا الأساس لم يصل عام 1947م حتى تجاوز عدد اليهود أكثر من ستمائة ألف نسمة.
ان ذلك يعني التغير الواضح في التركيبة السكانية في الأراضي الفلسطينية . لم يقتصر الدور اليهودي على الاستيلاء على الأراضي وعلى نشر المؤسسات المدنية من مدارس وجامعات، بل انهم حرصوا منذ البداية أن تتزامن تلك المشاريع والأعمال المدنية مع تنظيمات وتدريبات عسكرية مكنهم من ذلك جيش الانتداب البريطاني الذي حرص على اكساب اليهود خبرة عسكرية ولادراكه أنه سيغادر في نهاية المطاف تاركاً زمام الأمور في فلسطين لليهود. ولقد شارك الجيش اليهودي في الحرب العالمية الثانية واكتسب دراية وخبرة أفادته بلا شك في بعد في حروبه ضد الفلسطينيين بشكل خاص وضد الجيوش العربية بشكل عام. كما أن اليهود انخرطوا في تنظيم مجموعات وعصابات يهودية تكر وتفر على القرى الفلسطينية وترتكب المذابح والمجازر لتدخل الرعب في قلوب الفلسطينيين في محاولة لاجبارهم على ترك قراهم ومدنهم وبالتالي الانقضاض على أراضيهم وفرض واقع جديد. ولقد نجح اليهود مع الأسف الشديد والى حد كبير في هذه السياسة. تمكن اليهود من تنظيم صفوفهم واعداد جيشهم عددا وعدة حيث عمل الجيش البريطاني على توفير كافة الأسلحة التي يحتاجها الجيش اليهودي في ذلك الوقت ولم يأت عام 1948م إلا وأصبح الجيش اليهودي في كامل عدته مستغنياً عن الوجود البريطاني الذي ترك فلسطين لهذه القوة الجديدة التي بلغ عدد جيشها في ذلك الوقت أكثر من مائة ألف.
في 16 من فبراير عام 1946م عبر مجلس الأمن عن ثقته بانسحاب القوات الأجنبية من سوريا ولبنان بأقصى سرعة ممكنة. وتم التصويت على مسودة قرار بهذا الخصوص وتم تبني ذلك القرار. ولا شك أن ذلك القرار أحيا الأمل لدى الشعب الفلسطيني ولدى الدول العربية بإمكانية ان تفعل بريطانيا الشيء نفسه وتنسحب من فلسطين. وبالفعل كان التوقع في مكانه إلا أنه انسحاب احلال لتمكين استيطان واحتلال جديد بدلاً من الانسحاب بهدف استقلال فلسطين.
في ابريل من عام 1947 تلقت الأمم المتحدة رسالة من الحكومة البريطانية تطلب فيها من الجمعية العمومية ان تدرج المسألة الفلسطينية على جدول أعمالها في الجلسة الاعتيادية القادمة للجمعية العمومية كما طلبت تخصيص جلسة خاصة لتشكيل لجنة خاصة لدراسة المسألة. شكلت العديد من اللجان الفرعية لدراسة المسألة الفلسطينية، وفي هذه الأثناء ظهرت الدول العربية في الصورة.
تقدم كل من مصر والعراق بمشروع في يوم 21 ابريل من عام 1947م أعقبه في اليوم الثاني مباشرة تقديم كل من المملكة العربية السعودية ولبنان وسوريا مشروعاً مماثلاً.
طالبت هذه الدول بأن يلحق هذا المشروع المتعلق بالمسألة الفلسطينية بالمقترحات البريطانية وان يناقش في نفس الوقت الذي يناقش فيه المشروع البريطاني. وكان هذا المشروع العربي يتضمن انهاء الانتداب البريطاني واعلان استقلال فلسطين. أبدى العرب تبريراتهم لمناقشة مشروعهم مع المشروع البريطاني من قبل الجمعية العمومية وذلك من خلال ايراد عشر نقاط لتدعيم الموقف العربي ملخصها اعتبار أن القضية هي الاعتراف باستقلال فلسطين وان الاستقلال لفلسطين هو الحل الوحيد والعادل للقضية الفلسطينية وان ما حصل من انتداب ومن وعد بلفور يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة ولم تعترف به أي من الدول العربية بتاتا. كما أن حصول فلسطين على الاستقلال لا يعني العنصرية ضد المصالح اليهودية إلا أن المسألة اليهودية تشكل موضوعاً مختلفاً وموضوعاً منفصلاً عن مسألة الاستقلال الفلسطيني والمسألة الفلسطينية وان كان بالامكان سماع ومناقشة مسألتهم.
ولكن كان هناك معارضون لبحث هذا المشروع العربي مع المشروع البريطاني بحجة أن عدم مناقشة هذا المشروع العربي لا يعني بالضرورة عدم الاستقلال في نهاية المطاف كحل للمشكلة الفلسطينية. كما أن الموضوع معقد ويحتاج إلى عناية ودراسة هادفة، اضافة إلى أن المسألة تحتاج الى كل الدلائل والمعلومات من مصادر مختلفة ومن السابق لأوانه الحكم بأن الاستقلال هو الحل الوحيد للمشكلة الفلسطينية. كما أن المسألة عاجلة ومناقشة كل التفاصيل سيؤخر اللجنة الخاصة عن اعداد الموضوع للجلسة العمومية الخاصة القادمة الذي قدم العديد من الوفود من أجل هذه الجلسة. وزيادة على ذلك فان الاقتراح البريطاني عملي وانه لا يمكن بحث جوهر القضية حتى يسمع من العرب واليهود على السواء.
على كل حال تم التصويت ضمن اللجنة المعدة لجدول الأعمال للجمعية العمومية على ضم المشروعين ومناقشتهما مع بعض وكان التصويت تأييد عضو واحد وثمانية أصوات ضد مناقشة المشروع العربي وامتناع أربعة أعضاء عن التصويت.
ورغم محاولات التوفيق بين المشروعين لارتباطهما ببعض إلا أن الأمر انتهى بتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث صوت لمصلحته 15 عضواً و 24 ضد و 10 امتنعوا عن التصويت. تقدمت الولايات المتحدة بمشروع مع الارجنتين يتضمن الاستماع للجانبين اليهودي والفلسطيني. لم ينته الأمر من خلال المناقشات في الجمعية العمومية ومجلس الأمن إلى ما يفيد الفلسطينيين.
أعتقد أنه تم تشكيل ما يسمى بلجنة فلسطين للأمم المتحدة لتولي الأمر بعد الانسحاب البريطاني.
أعلنت بريطانيا أنها ستتخلى عن انتدابها لفلسطين في 10 مايو من عام 1948م وأن الأراضي الفلسطينية بعد هذا اليوم لا تعتبر مستقلة بحكم الخلاف على هذه الأراضي بين اليهود والفلسطينيين وان الأمم المتحدة ستكون مسؤولة عن فلسطين بعد الانسحاب البريطاني. كما أن على جميع العاملين في الخدمات الحكومية المختلفة أن يظلوا في مواقعهم الوظيفية تحت ادارة لجنة الأمم المتحدة التي ستحل محل الانتداب البريطاني بعد انهائه. من المعروف ان الإمبراطورية البريطانية توسعت بحيث شملت أراضي واسعة من العالم وعندما كانت تذكر تلك الامبراطورية فانه يقال عنها بأنها الامبراطورية التي لا تغيب عن ارضها الشمس. لم يكف ذلك الاستعمار التمتع بخيرات تلك المستعمرات والاستفادة من ثرواتها الطبيعية المعدنية والزراعية والغابية ولكنها لم تكد تترك بلداً إلا وتركت فيه مشكلة ولا تزال تلك المشاكل عالقة ومعقدة حتى وقتنا الحاضر ولذلك لا غرابة بتسميتها بعقادة العقد. من هذه المشاكل مشكلة جنوب السودان ولا ننسى تقسيم القارة الهندية ومشكلة كشمير التي يحتمل أن تقوم من أجلها حرباً نووية بين باكستان والهند. والقضية الفلسطينية واحدة من هذه المشاكل التي شغلت العالم بأسره ولا يعلم نتائجها إلا الله.
انسحب الجيش البريطاني من الأراضي الفلسطينية في عام 1948م وانتهى الانتداب البريطاني. وكان ذلك يعني أن الشعب الفلسطيني بقي وجهاً لوجه أمام هذا العدو الطامع في اغتصاب الأراضي الفلسطينية. كما أن ذلك يعني اطلاق يد اليهود في التعامل مع عرب فلسطين كيفما شاءوا ومتى شاءوا وأينما شاءوا. لقد كان الانتداب البريطاني رغم محاباته والتزاماته بمساندة اليهود في انشاء وطن قومي لهم في فلسطين إلا أن الجيش البريطاني كان يتدخل لفض الاشتباكات وتشكيل لجان للتحقيق في المواجهات واجراء المحاكمات للطرفين رغم التحيز الذي كان واضحاً والوقوف إلى الصف اليهودي بدرجة كبيرة. ولكن رغم ذلك كان الوجود البريطاني يمثل أخف الضررين أو لنقل أفضل السيئين اذا كان هناك من أفضلية في السوء أو في درجات السوء على الأقل!!
لقد واجه الجيش البريطاني سلسلة من الاعتداءات من العصابات اليهودية وقد يكون متعمداً ومقصوداً للتعجيل برحيل البريطانيين وقد يكون في سياق استخباراتي لذر الرماد في العيون ومن تلك العمليات الشهيرة ضد البريطانيين هو تفجير فندق داوود. على كل حال يبدو أن الانسحاب أمر دبر بليل وكان ذلك يعني المواجهة الشاملة بين العرب واليهود وبالفعل لقد نشبت الحرب في شهر مايو من عام 1948 بين الطرفين. هجم اليهود هجمة شرسة على الأراضي الفلسطينية بجيش منظم وعتاد حربي وفير وحديث في مواجهة جيوش عربية أقل تنظيماً بكثير وأقل عدة بكثير مع الافتقار للتنظيم والتخطيط العسكري والقيادة الموحدة.
ليس هناك من شك في أن الجيوش العربية كانت مصممة وحريصة وراغبة في رؤية الأراضي الفلسطينية خالية من الاحتلال الصهيوني رغم ما قيل وما أظهر من تبريرات لهزيمة العرب في هذه الحرب. ليس غريباً الهزيمة في ظل الظروف التي كنت تعيشها معظم الدول العربية التي كانت تقبع تحت نير الاستعمار أو الانتداب البريطاني والفرنسي، وليس غريباً من زاوية أخرى لأن المزود بالسلاح هو تلك الدول المستعمرة لتلك الدول المستعمرة أو تلك التي ما زالت في طور البناء والتكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد سقطت المدن الفلسطينية واحدة تلو الأخرى في فترة وجيزة وقياسية جداً حيث سقطت مدينة صفد ومدينة بيسان ومدينة عكا ومدينة حيفا في شهر واحد هو شهر مايو من عام 1948م بينما سقطت مدن اللد والناصرة في يوليو من نفس العام ولحقت بها مدينة داريا في شهر أغسطس من نفس العام. وعلى هذا الأساس لم يبق في أيدي الفلسطينيين سوى الضفة الغربية التي ألحقت بالأردن وكذلك قطاع غزة الذي ألحق إدارياً بمصر.
وقسمت فلسطين على اثر تلك الحرب الى قسمين وتم الاعتراف مباشرة بالدولة العبرية حيث كانت روسيا أولى الدول المعترفة بهذا الكيان الجديد وتوالت الاعترافات فيما بعد من الدول المختلفة. هكذا كانت بداية المواجهة الحقيقية والحروب المنظمة التي سنتناول بقية التحولات تباعاً في مقال لاحق.
zahi2000@hotmail.com
|
|
|
|
|