| الثقافية
سئم كتابة المقالات، ومل تفحص الأجنبيات، من دوريات وشهريات، بحثاً عن موضوع ساخن، فقرر أن يكتب قصة!.. قصة يستظل بها، ولو لسويعات، من هجير السياسة ولوافح الحساسيات... بعثر حقائب حقب حياته، تفحص أردية الطفولة، فأعياه بياض بزاءتها.. تمعن في ثياب الشباب، فوجدها ملأى بالثقوب والزركشة.. ثقوب طيش وزركشة أحلام وتطلعات، معظمها ذاب أو خاب... جلباب الرجولة وإن زانه تطريز التجارب، إلا أن نمطيتها عقيمة الألهام.. كلا فمن المؤكد، أن خيوط أياً منها لا يصلح لنسج خباء قصة ظليلة، تستوقف الأنظار.. لملم ما تبعثر من سنين حياته، لينثر صفحات قراءاته، لعله يجد بينها، سطوراً موحية.. طاف جمهورية أفلاطون، وتجول في مدينة الفاربي الفاضلة.. أمعن في السير موغراً، حتى أطل على مروج مضارب ابن رشد الشهير، محور فيلم المصير... ويوسف شاهين وجائزة التقدير.. ولكن كل ما قد يقال قد قيل، عن إحراق كتبه.. ثم إن الموضوع حساس خطير، فنسيجه سريع الالتهاب، إذ ما إن يشعل أحد المتنطعين عود ثقاب، حتى يضطرم الخباء بحريق لهّاب.. ولكن مهلاً، فللحديث بقية، قد يفرش بساطاً لوليمة قصصية شهية!...
من حقائق التاريخ التي يعترف بها، حتى أكثر المؤرخين الغربيين تعصباً، أن فلسفة ابن رشد، كانت إحدى الركائز الأساسية لقيام النهضة الأوروبية، ولكن إن كان التعصب الأعمى، في الأندلس، قد أحرق كتبه، فكيف اطلع الغرب عليها؟.. ذلك ما قد يجعل من بقية الحديث، قصة مُشوَّقة!..
تروي كتب التاريخ أن المفكر اليهودي «موسى بن ميمون»، لم يكن معاصراً لابن رشد فقط، إذ لم يفصل بين مولدهما سوى تسع سنين، ولم يكونا أبناء مدينة واحدة، هي قرطبة فحسب، بل وبرع مثلما برع ابن رشد في الطب والفلسفة، فلا عجب إن تأثر به، فحرص على اقتناء مؤلفاته وتدوينها إضافة إلى مؤلفات ابن سينا والرازي في الطب والفلسفة، والتي استفاد منها الغرب، أيما استفادة. لتلك الرواية، أحداث عجيبة مؤثرة ربما أوحت باستلهام ملامح قصة معبرة، تنسجم مع ما نعيشه من ظروف حرجة!!..
يمضي التاريخ ليحكي، أن «ابن ميمون» اليهودي، ما إن شهد حرق كتب «ابن رشد»، ونفيه إلى «أليسانة»، حتى آثر السلامة، فهاجر من الأندلس، برفقة زوجته وأولاده، لكن هجرته لم تكن للغرب، كما هو الحال للعديد من العلماء والمفكرين والأدباء، هذه الأيام، بل إلى بلدان إسلامية، طالما أسهب التاريخ في تعداد ملوك منهم وأمراء، كانوا ظلاً وملاذاً للعلماء والفقهاء والأدباء، مهما اختلفت مللهم وأفكارهم. تنقل «ابن ميمون»، ما بين فاس، وفلسطين، والأسكندرية، التي ما إن اشتهر بها لبراعته في الطب، حتى غدا الطبيب الخاص للأمير «نور الدين»، أكبر أبناء البطل الإسلامي الشهير، السلطان الناصر، صلاح الدين الأيوبي. صلاح الدين، ذلك الملك الشهم النبيل.. شهامة بلغت أوجها حينما أرسل طبيبه مصحوباً بسلال الخوخ والكمثرى إلى عدوه، ملك الانجليز «ريتشارد الأول».. ونبل بلغ ذراه، حينما أهداه صلاح الدين حصاناً، بعدما رآه يحارب وهو راجلاً.. فيما أسره بعض ملوك الغرب من النصارى، في رحلة عودته منهزماً ولم يطلقوا سراحه إلا بعدما دفعت إنجلترا فديته، رغم أنهم لقبوه بريتشارد «قلب الأسد»!!.. ولكن ملحمة صلاح الدين، رغم ما تزخر به من بطولات، وشهامة ونبل وتضحيات، كتب عنها الكثير الكثير، وصورت في أفلام ومسلسلات.. والتكرار وإن زانه الفخار، إلا أنه لا محالة يودي إلى الإملال.. فليعد إلى تتبع، ابن ميمون اليهودي، لعل في قصته ما يوحي بكتابة قصة!.
***
عاش اليهودي«موسى بن ميمون» في القاهرة في رغد وأمان، بعدما غدا طبيباً، للأمراء وكبار القادة والقضاة، فلم يتفرغ لكتابة علوم وفلسفة جهابذة العلماء والفلاسفة المسلمين فحسب، بل وألف كتباً في الطب باللغة العربية عن «أبقراط وجالينوس» ومقالات في الصحة للملك الأفضل (علي بن الملك صلاح الدين)، وابن أخيه سلطان «حماة» الملك المظفر (تقي الدين بن نور الدين) فلا فرق بين يهودي ونصراني ومسلم، فيما يتصل بالعلم والكفاءة آنذاك.. ولكن الاثارة تبلغ مداها حين نعلم، أن ما ألفه ذلك اليهودي، عن فلسفة «ابن رشد»، قد نقل وترجم، عن طريق ملك نصراني، لا تقل محنته عن محنة «قلب الأسد» ريتشارد الأول، فيما لقيه من خيانة وجحود، لا من ملوك النصارى المنافسين فحسب، وإنما من الكنيسة البابوية ذاتها!..
هنأ الكاتب نفسه، هامساً لنفسه، بسرور: (يا للقصة الرائعة ستكون.. فيلسوف مسلم، ينقل فلسفته مفكر يهودي، فيترجمها ملك نصراني، لتؤسس لنهضة الغرب!.. ومتى؟.. في خضم أشهر حرب!.. الحروب الصليبية الشهيرة!.. إنها لعمري قصة رائعة، تثبت لكل دعاة صدام الحضارات، أن التعايش والتعاون ما بين الثقافات المتباينة الأديان، قد ينبت ويثمر حتى في خضم الحروب!..).. انشرح صدوره، فقرر المضي في التعرف على ذلك الملك النصراني فردريك الثاني، ملك ينحدر من أصل ألماني، أضحى امبراطور ألمانيا وإيطاليا بعدما غزتهما جيوشه، حتى احتل جزيرة صقلية. كان ملكاً مثقفاً بمعنى الكلمة، منفتحاً على الأدب والفلسفة والعلوم، تماماً كالرشيد والمأمون، يتكلم لغات عدة، من ضمنها اللغة العربية، التي أعجب بآدابها وفلسفتها وعلومها، لكن انفتاحه هذا سرعان ما أدى به الى التصادم مع الكنيسة البابوية المتحجرة آنذاك، فحرمته الكنيسة وطردته، كأحد رعاياها المارقين على الدين!.. ذلك لم يمنعه من قيادة الحملة الصليبية السادسة، منافسة لملك إنجلترا، ريتشارد، وملك فرنسا، فيليب، مما يدل دلالة واضحة ان تلك الحروب، ما كانت غيرة على الدين بقدر ما كانت بحثاً عن أمجاد شخصية وغنائم دنيوية!.. لكن ما إن وصل الكاتب في بحثه إلى تلك النقطة حتى غام وجهه، وعبست أساريره!!.. ما أشبه اليوم بالبارحة، فها هي ذات الدول الغربية، بقيادة ابنتهم الكبرى العتية تتنافس على غزو دولة إسلامية!.. زاد غمه غماً، حين أدرك فجأة أنه يعوم في بحار السياسة العاتية. فإن كان قد عاد بعدما خاض بحيرة الفلسفة الصافية، فالأجدر به العودة إلى بر الأمان، بعيداً عن محذور الفلسفة ومحظور السياسة ومياهها الخطرة.
لم يقنط ولم ييأس، فقد قرر أن يجرب حظه في ميدان، نادراً ما خاب!.. ألا وهو ميدان العشق والهيام.. فهو لابد وأن يلهمه شذرات ولمحات، قصة شاعرية، تبهج النفوس في زمننا العبوس!.. قرر الابتعاد عن روايات الحب الحسي والغرام العنيف، كروايات مدام بومبا دور، وكازانوفا، بل وحتى «ذهب مع الريح» والالتزام بروايات الحب الصادق العفيف كرواية (روميو وجوليت)، أو (دكتور زيفاجو)، ولكن مهلاً فهناك ما يفوقها عفة وتضحية، في تراثنا العربي الأصيل، عروة بن حزام العذري وعفراء، والصمة القشيري وريا، وجميل بثينة، وكثير عزة، لكنه قرر انتقاء الأشهر.. قيس بن الملوح وليلى العامرية.. إلا أنه سرعان ما صُدم!.. فقد كانت بانتظاره المفاجأة الأكبر!!.
فما إن غاص في تسعين صفحة، أفردها أبو فرج الأصفهاني، في الجزء الثاني من كتاب الأغاني، لمجنون بني عامر وأشعاره، حتى وجده ينقل عن الأصمعي قوله: (رجلان ما عُرفا في الدنيا إلا بالاسم، مجنون بني عامر وابن القرية، وإنما وصفهما الرواة).. وعن ابن الكلبي انه قال: (حُدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية، كان يهوى ابنة عم له، ويكره أن يُظهر ما بينها وبينه)، ونقل عن الجاحظ الموثوق ما معناه، أن كل ما سمع الناس شعراً قيل في ليلى، نسبوه إلى قيس!.. لا حول ولا قوة إلا بالله، إذن فقصة قيس وليلى موضوعة، وشعره منحول، وكل الحكاية ما هي سوى.. أسطورة!.. أو كلما انتهج طريقاً للوصول إلى نسج قصته، وجده إما محذوراً، وإما محظوراً، وإما مفعماً بالأساطير!.. ألقى بقلمه، مكمماً فمه، بعدما أخفقت كل محاولاته في رسم خطاه على السطور.. رافعاً رايات استسلامه، فلا الفلسفة نفعته، ولا السياسة أنجدته، أما التاريخ فلم ينتق منه سوى الأساطير!...
yathekair@hotmailcom
|
|
|
|
|