* حوار علي بن سعد القحطاني:
يتطرق الدكتور علي عبدالله ابراهيم في حوارنا معه الى نشأة البلاغة في التراث القديم وأورد لنا نماذج ونصوصاً تدل على خاصية البيان والفصاحة عند العرب وكان من الطبيعي ان ينتج عن تلك الخاصية مولد البلاغة. وتحدث الدكتور علي أيضا عن ان العرب كانت تهدف من وراء وضع علم البلاغة الى الإلمام بإعجاز القرآن وفهم أسرار ذلك الإعجاز.
وعرج الضيف في حوارنا معه الى المراحل التي مرَّت بها نشأة البلاغة وأهم أعلامها والمصنفات التي ازدانت بها المكتبة البلاغية والنقدية قديما وحديثا والدكتور علي عبدالله ابراهيم من مواليد 1954م تخرج من قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة الخرطوم سنة 1983م وحصل على درجة الماجستير في القسم نفسه عام 1986م وكانت رسالته الأكاديمية بعنوان «دور ابن قتيبة في التطور النقدي العربي خلال القرن الثالث الهجري» ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ليدز بانجلترا 1991م وكان عنوان الرسالة «دراسة لكتاب الشيخ الصفدي «غيث الأدب الذي انسجم في شرح لأمية العجم دراسة نقدية وتحليلية» ولديه العديد من الأبحاث القيمة وهو حالياً استاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الملك سعود.
* كيف كانت نشأة البلاغة في التراث القديم؟
في رأيي ان هذا السؤال سؤال كبير يقوم على عدد غير قليل من الأسئلة الفرعية، وللاجابة عليه بشكل واف نرى من الواجب علينا ان نبين، على الأقل، كيف كانت الصور الأولى لاهتمام العرب بالبلاغة واحتفالهم بها، ثم نوضح الأسباب التي دفعتهم الى وضع علم البلاغة، ومن ثم نتكلم عن علماء العربية الذين يرجع الفضل لهم في ابتداع هذا العلم، وصياغة أصوله وقوانينه التي بين أيدينا الآن. وعليه فإننا نقول: بدأ اهتمام العرب بالبيان والفصاحة، وبالبلاغة باعتبارها فنا يقوم عليه الأدب الرفيع، منذ زمن قديم، حيث لم يكن هذا الأمر مقصورا على جهود العرب الذين عاشوا بعد قيام الدولة الاسلامية كما قد يتبادر الى أذهان بعضهم. ويمكننا ان نلاحظ احتفال عرب الجاهلية بالبلاغة في صور مختلفة ومتباينة، منها، على سبيل المثال، عقدهم للأسواق الأدبية في عكاظ، وغيره من أماكن تجمعهم المشهورة. فقد كانوا يتناشدون الأشعار، ويتسابقون في ذلك الأمر بأن يحتكموا الى ذوي الخبرة والدُّربة منهم، وذوي القدرة على تمييز جيد الشعر من رديئه. ومن أشهر أولئك النقاد النابغة الذبياني الذي كانت تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ فيأتيه الشعراء من كل أنحاء جزيرة العرب بغية عرض أشعارهم عليه ليقرر هو في شأنها فيقدم هذا الشاعر ويؤخر ذاك. ولهذا السبب فقد كان الشاعر الجاهلي يمنح قصيدته قدراً عالياً من العناية، ويهتم اهتماما كبيرا بتجويد أسلوبه فيها وتحسينه ليصل بها الى المكانة أو الدرجة التي تمكنه من نيل رضا النابغة أو الظفر بمدحه وتقريظه لأن في ذلك شرفاً له ولقبيلته على حد سواء. وقد تطور الأمر بعد ذلك بأن أصبح الشاعر يحتل مكانة خاصة في مجتمعه، ويجد من الاحترام والتقدير ما لا ينعم به غيره من أبناء القبيلة التي ينتمي اليها. ولم يكن غريبا، وقتئذ، أن تعقد القبيلة مظاهر الفرح والابتهاج كلما خرج من بين أبنائها شاعر؛ ذلك لأن الشاعر هو الشخص المنوط به أمر الدفاع عن القبيلة في مجابهة الخصوم والأعداء، وهو الرجل الذي تعتمد عليه القبيلة ليرفع من شأنها بين سائر القبائل إما بتعداد مآثرها وحصر مناقبها، وإما بذكر أيامها التي انتصرت فيها على منافسيها.
ومن صور اهتمام عرب الجاهلية بالبيان والبلاغة أنهم كانوا يمدحون اللسان في أشعارهم. من ذلك قول زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:
وكائن ترى من صامت لكل معجب
زيادته أو نقصه في التكلّم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وطبعيّ أن نرى العرب الذين عاشوا في صدر الاسلام، وفي العصور التالية له يفعلون ما فعله أسلافهم في الميل الى الكلام الفصيح البين، وفي العمل على إعلاء شأن كل من يظهر منهم نجاحاً أو تفوقاً في هذا الميدان، وطبعيٌّ أيضا ان نراهم ينوهون بكل هذا في كلامهم المنظوم. استمع الى شاعرهم يقول:
أرى الناس في الأخلاق أهل تخلّق
وأخبارهم شتى فعُرفٌ ومُنكرُ
قريباً تدانيهم إذا ما رأيتهم
ومختلفاً ما بينهم حين تَخبُرُ
فلا تحمدنَّ الدهر ظاهر صفحة
من المرء ما لم تبلُ ما ليس يظهرُ
فما المرءُ إلا الأصغران: لسانه
ومعقوله والجسم خلقٌ مُصوَّرُ
وما الزّينُ في ثوب تراه وإنما
يزينُ الفتى مخبوره حين يُخبرُ
ومن الشعراء الاسلاميين الذين عبروا عن هذه الفكرة كعب بن سعد الغنوى الذي مدح رجلا أديباً بقوله:
حبيب الى الزّوّار غِشيان بيته
جميل المحيا شبَّ وهو أديبُ
إذا ما تراءاه الرّجالُ تحفّظوا
فلم تنطق العوراء وهو قريبُ
وإذا كان مدح اللسان قد وجد حظاً وافراً في شعر العرب الجاهليين والاسلاميين على حد سواء، فإن هذا المدح قد عرف طريقه الى كلامهم المنثور أيضا. فقد وردت في كتب التاريخ والأدب عبارات وأحاديث تمجد اللسان، وترفع من قدر أهل الفصاحة والبيان. من ذلك ما أورده الجاحظ في «البيان والتبيين» أن أعرابياً مدح رجلا برِّقة اللسان فقال:«كان والله لسانه أرقَّ من ورقة، وألين من سَرَقة».
السَّرَقُ بالتحريك: شقائق من جيّد الحرير أو أبيضه. ونسب الى العباس بن عبدالمطلب أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: في اللسان. وقال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وقع عليّ النوم؟ فقال له خالد: لأنك حمار في مسلاخ إنسان. «المسلاخ: الجلد».
ومما ذكره الجاحظ أيضا أنه قد قيل لأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول القامة، وضخم الهامة، ورحب الشِّدق، وبعد الصوت. ومعلوم ان رحابة الشدق تعني سعة الفم، وأن قوة الصوت وبعده لا يكونان في الرجل إلا إذا كان واثقاً من نفسه، وأن الثقة بالنفس تعتمد، فيما تعتمد، على عمق الفكر والثقافة أو على غزارة العلم والأدب.
ويجدر بنا أن نذكر في هذا المكان أن من العبارات التي تنسب إلى صاحب المنطق «أرسطو» قوله: حدُّ الانسان الحي الناطق المبين.
وزاد من مكانة الشاعر في البيئات العربية المختلفة أنه كان دائم السعي إلى الحط من قدر أعداء قومه إما بهجائهم والخوض في أعراضهم، وإما بذكر مثالبهم ومواطن ضعفهم وقصورهم. وتجدر الاشارة إلى القول بأن العرب كانوا يخافون الهجاء، وكانوا يتحاشون الشعراء الذين اشتهروا به أمثال الحطيئة وبشار وغيرهما. يدلنا على ذلك قول شاعرهم في هذا الخصوص:
وجرحُ السيف تدمله فيبرا
ويبقى الدّهر ما جرح اللسانُ
يتضح لنا مما تقدم أن من عوامل نشأة البلاغة العربية أن العرب جبلوا على حب الفصاحة والبيان واللسن، وأنهم فتنوا بتذوق الأسلوب ونقده، فكانت لهم في الجاهلية آراء نقدية كانت هي، بصرف النظر عن طبيعتها وحجمها، الأساس الأول الذي اعتمد عليه النقد الأدبي عند العرب. وبدهي أن يكون النقد الأدبي الأساس لعلم البلاغة الذي تبلورت أصوله واتضحت معالمه بعد ذلك كما سوف نرى فيما يلي.
* متى وضع علم البلاغة العربية، ولماذا؟
برزت الحاجة إلى وضع علم البلاغة في الفترة التي بدأ فيها الذوق السليم يأخذ في الفساد والانحراف عن طريقه المعهود شيئاً فشيئاً، وفي الوقت الذي بدأ فيه الطبع الذي كان مصدر الإلهام ومنبع الفصاحة للعربي يضمحل أو تقل درجته في نفوس العرب. حدث كل ذلك عندما اختلط العرب بشعوب الأمصار التي تم فتحها وضمها إلى الدولة الإسلامية، حيث كان تأثر اللغة العربية بذلك الاختلاط أمراً حتمياً، ومن ثم ظهرت الحاجة إلى وضع أصول وقواعد تمكن طلاب اللغة والأدب من تجنب الزلل، أو الوقوع في الخطأ في الأسلوب والبيان. هذا فضلاً عن القول بأن العرب كانت تهدف من وراء وضع علم البلاغة إلى الإلمام باعجاز القرآن الكريم، وفهم أسرار ذلك الاعجاز، ولقد ذكرنا آنفاً أن العرب كانوا، من أيام الجاهلية، يفتخرون ويتباهون بمقدراتهم البيانية والبلاغية، وكانوا يتسابقون في ذلك ويتنافسون، وظل هذا الوضع على حاله إلى أن جاءهم القرآن الكريم فشدهم ما فيه من بيان وقوة تعبير حتى قال قائلهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، ما يقول ذاك بشر. وربما كان اعجابهم بالأسلوب القرآني من الأسباب القوية التي دفعتهم إلى وضع علم البلاغة حتى يتسنى لهم الكشف عن اعجاز القرآن الكريم من جهة، وليتمكنوا من الاستفادة مما جاء في القرآن فيما يتصل بتجويد أساليبهم الأدبية، وطرائقهم في التعبير من جهة أخرى، ولا غرو في ذلك، فكلنا يعلم أن القرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه بأهمية البيان العربي ومكانته في قوله تعالى في سورة «النحل»:« لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ»، فوصف القرآن اللسان العربي بالإبانة مدحاً له وتفضيلاً على اللسان الأعجمي.
وعليه فإننا نستطيع القول بأن علم البلاغة العربية كان ثمرة لجهود علماء أجلاء عاش بعضهم في القرن الثالث الهجري، في حين برز جلهم في القرون الأربعة التالية. ويحسن بنا القول هنا أنه لا بد من التفريق بين فكرة البلاغة بوصفها فناً وبين البلاغة العلم المعروف. فقد كان للجاهليين دور بارز وفضل كبير في فن البيان أو البلاغة، في حين نال العرب الذين عاشوا بعد بزوغ فجر الإسلام، بزمن غير قصير، شرف وضع علم البلاغة بأحكامه ومفرداته المعروفة لدينا جميعاً.
ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن علماء البلاغة العربية أو المشتغلين بأمرها قد اختلفوا في آرائهم، وتباينت أقوالهم فيما يتصل بتسمية الشخص الذي يستحق أن ينسب إليه شرف وضع هذا العلم الذي أحدث طفرة هائلة جبارة في اللغة العربية، وبث فيها من الحيوية وأسباب الجمال قدراً عظيماً. فقد ذهب بعضهم إلى القول بأنه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ «ت 255ه» صاحب «البيان والتبيين»؛ ومنهم من رشح إمام النحو العربي المشهور سيبويه «ت 189ه» ؛ وقال آخرون انه الإمام عبدالقاهر الجرجاني «ت 471ه» مؤلف «دلائل الإعجاز» و« أسرار البلاغة»؛ وذهب فريق رابع إلى القول بأنه السَّكاكي «ت 626ه» صاحب «مفتاح العلوم» . في حين يري جماعة من الكتّاب المحدثين أن أفضل من يذكر اسمه في هذا السياق هو الخليفة العباسي ابن المعتز «ت 296 ه» وقد أورد كل فريق من هؤلاء عدداً من الحجج والبراهين التي تؤيد فكرته وتسند ادعاءه. ونحن نرى أن هذا الخلاف مما لا طائل وراءه، وليس من العدل أن نقرن وضع هذا العلم المتميز بهذا الأديب أو ذاك العالم. ذلك لأن علم البلاغة العربية، في رأينا، لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بعد بذل سلسلة من الجهود الشاقة المضنية شارك فيها إلى جانب المذكورين آنفاً عدد غير قليل من أساتذة هذا العلم المعروفين. ولعله من الأفضل أن نقول إن اهتمام العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بالبيان على النحو الذي رأيناه شكّل مقدمة أو ارهاصاً لظهور هذا العلم في الوقت المناسب.
وإذا ما انتهينا إلى القرن الثالث الهجري ألفينا الجاحظ يؤلف كتاباً له وزنه وقيمته في الأدب العربي سماه «البيان والتبيين» ونثر في ثناياه عدداً من الملاحظات البلاغية، ومن الآراء والأفكار التي تعدُّ من صميم هذا العلم. ثم جاء بعده عبدالله بن المعتز الذي عاش في النصف الثاني من القرن نفسه، وألّف كتاباً متخصصاً في البلاغة أطلق عليه اسم «البديع»؛ وهو ، بلا ريب، أول كتاب يقصر بحوثه على علم البلاغة، إذ ناقش فيه صاحبه عدداً من المسائل التي ندرسها الآن من خلال عرضنا لعلمي البيان والبديع.
وإذا ما دخلنا في القرن الرابع الهجري يقابلنا قُدامة بن جعفر «ت 337 ه» صاحب «نقد الشعر» الذي يعدُّ تطوراً جديداً في بحوث النقد والبيان لأن صاحبه مال فيه إلى إعمال المنطق والاعتداد به أكثر من ميله إلى الطريقة العربية التي تقوم على الذوق الخالص. ثم نقف بعد قُدامة عند الآمدي «ت 371ه» الذي أخرج للناس في ذلك الزمن كتاباً سماه «الموازنة بين الطائيين: البحتري وأبي تمام» ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب أحدث تحولاً معتبراً في تطور البلاغة العربية؛ ذلك لأن مؤلفه اعتمد فيه منهجاً خاصاً في النقد والبلاغة حين جعل الذوق العربي السليم، وطرائق العرب المعهودة في التعبير والبيان هي المعيار الذي يجب أن ترد إليه كل مسائل النقد والبلاغة. وكأنه أراد بذلك أن يؤسس مدرسة في البلاغة العربية تباين تلك التي نادى بها معاصره قدامة. ومن الذين تأثروا بالآمدي وأفادوا من فكره القاضي الجرجاني « ت 392 ه» صاحب الكتاب المشهور «الوساطة بين المتنبي وخصومه».
ويجدر بنا أن نذكر هنا أن مسائل البلاغة الواردة في الكتب المذكورة غالباً ما تختلط بمواضيع النقد الأدبي؛ وظل الأمر كذلك في سائر الكتب التي أُلّفت في تلك الفترة حتى جاء أبو هلال العسكري «ت 395ه» وأخرج «كتاب الصناعتين» الذي يعتبر نقطة تحول للبلاغة العربية، إذ أصبح النقد فيه بلاغة محضة. وبدخولنا للقرن الخامس الهجري نجد رجلاً أفاد من جهود سابقيه ثم وظف ما كان يتمتع به من ثقافة عالية وفكر عميق لفائدة هذا العلم المتطور، ذلك هو الإمام عبدالقاهر الجرجاني «ت 471ه» صاحب «الدلائل» و«الأسرار» والحق يقال إن البلاغة العربية شهدت بظهور هذا العالم الجليل تقدماً هائلاً سواء على مستوى ما يعرف الآن ب« علم البيان» أو ما يسمى ب«علم المعاني» . فقد أودع الإمام نظريته في البيان في كتابه «أسرار البلاغة» وفصل القول في نظريته «النظم» التي ارتبط اسمه بها في كتابه «دلائل الاعجاز» حيث ذهب إلى القول بأن سر اعجاز القرآن الكريم يكمن في نظمه وتأليفه، وأن النظم يعني أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه علم النحو وأن تعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهجت، فلا تزيغ عنها.. الخ ما قاله في هذا الخصوص.
هذا، وقد ازدانت المكتبة العربية منذ عهد عبدالقاهر وما تلاه من عصور بمؤلفات أهل البيان والبلاغة، منهم الزمخشري، وابن رشيق القيرواني «ت 460ه» وابن سنان الخفاجي «ت 466ه»، والرّازي «ت 606ه» والسَّكاكي « ت 626ه»، وعبداللطيف البغدادي «ت 629ه»، وابن الأثير «ت 637ه» وبدر الدين بن مالك «ت 686ه» والتنوخي «ت 698ه»، وابن أبي الإصبع «ت 654ه» والخطيب القرويني «ت 739ه» ، وشرف الدين الطيبي «ت 743ه»، ويحيى بن حمزة العلوي «ت 749ه»، وصلاح الدين الصفدي «ت 764ه»، وابن حجة الحموي «ت 837ه».
ثم توالت التآليف بعد ذلك حتى عصرنا الحاضر حيث نجد كتباً في البلاغة لعلي الجارم، والدكتور شوقي ضيف، وأحمد الهاشمي، والدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي، والدكتور عبدالعزيز عتيق، والدكتور فضل حسن عباس، والأستاذ سيد جعفر الحسيني، ومحمد ضياء الدين الصابوني، وعلي الشتيوي، والدكتور علي البدري، وغيرهم كثير مما تزخر به المكتبة العربية. هذا ولا يزال الأمل معقوداً في ظهور كتب تواكب التطور الذي حدث في الدراسات اللغوية بشكل عام، ودراسات البلاغة والنقد الحديث على وجه الخصوص.
* ما هو تقويمك للدراسات البلاغية الحديثة؟
لعله من المؤسف أن نقول إن معظم كتب البلاغة العربية التي أُلّفت في العصر الحديث تعتمد الطريقة السّكاكية التي تقوم على تقسيم البلاغة إلى علوم ثلاثة: معان، وبيان، وبديع؛ مع جمع أو حصر المسائل التي يشتمل عليها كل علم، ومن ثم وضع تعريف محدد لكل مسألة مع الاتيان بالأمثلة والشواهد من الموروث نثراً كان ذلك أو شعراً. وأغلب الظن أن المتلقي يعثر على الأمثلة ذاتها في كل الكتب التي ينظر فيها. وبدهي أن مثل هذا النوع من الدراسات لن يكون ذا فائدة معتبرة لأن هذه المادة موجودة في الكتب القديمة التي ألفها السّكاكي، والقزويني، وابن حجة الحموي، ومن لفّ لفهم من الكتّاب...
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى نجد أن المتلقي في عصرنا هذا في حاجة إلى دراسات تقوم على الأصالة وعمق الفكر، وتعتمد على تنوع ثقافات أصحابها وغزارة علمهم؛ وتكون، فضلاً عن ذلك، مواكبة للتقدم الذي طرأ على الدراسات الأدبية الحديثة. لايعني هذا الكلام، بالضرورة، ان المكتبة العربية خالية الآن من الدراسات التي لها وزنها في هذا المجال. فقد بذل بعض أهل الاختصاص جهداً مقدراً؛ نذكر من هؤلاء، على سبيل المثال فقط، الدكتورين محمد عبدالمنعم خفاجي، وعبدالعزيز شرف اللذين ألّفا كتاب «نحو بلاغة جديدة».
* النقاد حالياً يتفرعون إلى مدارس عدة، ولكن ما يلاحظ ان هناك نقاداً أسرفوا في نقل المصطلحات من الثقافات الأخرى وتناسوا تراثهم... ما رأيك؟
لعلنا ندرك جميعاً ان النقد العربي تمتد جذوره إلى فترة ماقبل الإسلام وطبعي ان يكون ظهور أول ناقد شعر مرتبطا بظهور أول شاعر فإذا سلّمنا لبعض الوقت بصحة الفكرة الشائعة التي تقول إن أول من بكى واستبكى، ووقف واستوقف من الشعراء العرب هو امرؤ القيس؛ فإننا نجد ان زوجته أم جندب الطائية كانت من نقاد شعره. وقد أوردت لنا كتب التاريخ والأدب موقفها النقدي المشهور مع امرئ القيس وعلقمة الذي عرف بالفحل بعد ان حكمت له أم جندب وقدمته على زوجها ثم أخذ هذا النقد في التطور والتقدم عبر كل العصور العربية المعروفة. وغنيٌّ عن القول استخدام النقاد في كل من العصور المذكورة لعدد من المسميات أو المصطلحات التي تعبر عن فكرهم النقدي في كل مرحلة فإذا فتشت في كتب النقد القديم وجدت كلمات مثل: الفحولة، واللفظ والمعنى، والطبع والتكلف، والسرقات الشعرية أو الموازنات، والانتحال، وبناء القصيدة، والبديع، والنظم.. الخ تلك المصطلحات التي تكشف عن طبيعة النقد العربي القديم.
والناقد الناجح، في رأينا، هو الذي يستند إلى هذا الموروث النقدي باعتباره أساساً يبني عليه ما اكتسبه من الدراسات الأدبية الحديثة وبدهي أن يضيف الأديب إلى معجمه النقدي مصطلحات جديدة؛ فهذا أمر تقتضيه سنة التطور في كل أسباب الحياة وأشكالها ولا أرى عيباً ان يستعين الناقد، بعد إتكائه على تراثه العربي، بمصطلحات تداولها أدباء من شعوب أخرى فلغة العلم والأدب لاتعرف الحدود والحواجز. هذا فضلاً عن القول بأن عدداً من المصطلحات المستخدمة في النقد الحديث لها ما يقابلها في نقدنا العربي القديم. من ذلك، على سبيل المثال، مصطلح «الصورة والمضمون» أو «الشكل والمحتوى» هو نفسه ما كان يسميه قدماؤنا «اللفظ والمعنى».
ولا أحسب ان ناقداً يحترم فكره وأدبه يمكن ان يتعمد تجاهل التراث النقدي العربي. كيف يجرؤ شخص على ذلك في الوقت الذي نرى فيه عدداً غير قليل من النقاد الغربيين لايزالون ينظرون في جهود نقادنا القدامى المتميزين ويأخذون منها. يحضرني الآن كلام قرأته للدكتورة كوثر عبدالسلام صاحبة «الاتجاهات الحديثة في النقد الأدبي» ذهبت فيه إلى القول بأن كثيراً من الدراسات البلاغية الغربية الحديثة نظر أصحابها في جهود الإمام عبدالقاهر الجرجاني، رحمه الله، وأفادوا منها في صوغ نظرياتهم المختلفة. ولاغرو في ذلك ولاعجب فالإمام عبدالقاهر كان واحداً من أعلام البلاغة العربية الذين عرفوا بعمق الفكر، وسمو الأدب والثقافة.