| مقـالات
عندما قاد الكاتب تركي الحمد بطلة روايته جروح الذاكرة (لطيفة) إلى مقعد الطبيب النفسي، فإنه كان يقود وإياها جيلا بكامله، شهد ذلك الانقطاع التاريخي بين الجيل الصحراوي وشبه الزراعي لما قبل الطفرة والعالم الجديد الذي قادهم اتجاه العالم الخارجي بجميع تناقضاته وتأزماته واشكالياته الوجودية الصعبة على بساطتهم الأولى.
والبطلة (لطيفة) كانت تقطن قرية صغيرة مغمورة تجاور الرياض، ويتهيأ لها بعد الزواج من ابن عمها (صالح) الحضور إلى الرياض في زمن المد النفطي العارم، وبالتالي يتاح لها الانفتاح على نوافذ كثيرة للعالم من حولها لا سيما بعد تحول زوجها صالح لأحد أثرياء الطفرة مما سهل لها العديد من السبل للاحتكاك بالعالم الخارجي، ولكن يبدو أن لطيفة كما يصورها الروائي وإن تكن غادرت قريتها الصغيرة إلا أن تلك القرية لم تغادرها، فتقع عندها البطلة صريعة للكثير من الهواجس والتناقضات بين الماضي والحاضر وبين الواقع والمثال، وإلى أن يقودها هذا الصراع إلى اضطرابات نفسية خطيرة تحملها إلى ان تنفصل عن واقعها وتعيش في عالم خيالي من الهذيان والتهيؤات، الذي لا يخرجها منها سوى العيش في مصح لعدد من السنوات والخضوع لعلاج نفسي يخرجها من أزمتها، وقد التزم الكاتب هنا في وصفه لمراحل العلاج بالنظرية الفرويدية الكلاسيكية عن اللاوعي ومكبوتات الطفولة التي تتحول إلى نوع من الذهان والجنون ان ظلت مخبأة في اللاوعي بجميع ترسباتها، ويبدو ان هذه المدرسة في علم النفس قد تجاوزها العلماء بمراحل عديدة بعد اكتشافهم قصورها عن الالمام بجميع جوانب النفس البشرية، ولكن هذا لا يمنع توظيف الكاتب لها بطريقة عميقة وذكية، وكان خلف اعترافات لطيفة اعترافات جيل بكامله أرهقه الصراع بين مثالية مزعومة في مجتمع بسيط ومنعزل وبين هدير العالم الخارجي وهذا هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله هذه الروايةويدور حول هذا المحور عدد من الأحداث والشخوص الجانبية حاول الكاتب فيها ان يرصد أهم الملامح والتفاصيل التي تدور في المجتمع مثل قضية المخدرات، والجهاد في أفغانستان، وبعض من قضايا المرأة.
وحين ننظر للرواية على المستوى الفني نجد أن شخصية لطيفة حملت حملاً ثقيلاً ووافرا فبدت بعيدة عن واقعها، فكيف لفتاة أمية بسيطة أن تستشهد بقصائد إيليا أبو ماضي ونزار قباني بعد سنوات بسيطة من وصولها إلى الرياض!! لا سيما أنها لم تتلق التعليم بصورته النظامية بل عبر سيدة كانت تتردد عليها بصورة متقطعة، فالثقافة وعي وإحساس يتغلغل في الوجدان وليست لمسة سحرية تغير من حال إلى حال، على حين أن شخصية صالح زوجها أكثر صدقاً واقتراباً من واقع الشخصية، وتخدم لغة الكاتب السلسة المنسابة سياق الرواية لولا بعض الانكسارات التي تخرج عبر تشبيهات متكلفة مثل (أسنان ناصعة كبياض نوارس الشتاء على جزر الخليج متحدية كل عتمة، أو تزفر الصحراء ناراً صافية في النهار كما التنين في بلاد الصين والوجوه الصفر).
والروائي تركي الحمد سواء في روايته هذه أم في رواياته السابقة، فإنه يؤسس بشكل توثيقي وراصد لفن الرواية الصادر من هذه المنطقة بالتحديد (نجد) ولنتجاوز البعد الاقليمي الضيق لهذا الوصف وننظر اليه ككاتب يزيل الرمال والأتربة عن كثير من الغامض والموارب والمسكوت عنه، إنه ببساطة يحفر درباً في مكان دامس ومقفر وغير مطروق كعالم آثار يكتشف مدينة أثرية قديمة يحرص على ان يقدمها للعالم.
|
|
|
|
|