| مقـالات
باللّه اقرؤوا معي، وتأملوا:
«وفيما كانت الكتيبة الخامسة تطوق جزء المدينة الغربي معلنة عن عزمها على الثأر لضحايا الألمان في ليننجراد، والفيلق المدرع يقاتل على بعد سبعين مترا من مقر هتلر، كان باقي الجنود القوقازيين يصلون إلى ضفة النهر الغربية في حراسة الطائرات ليبدأوا أكثر عملياتهم الحربية شناعة منذ أن قادهم جنكيز خان عبر مدن الشرق في القرن الثالث عشر.
ولم تسقط برلين وحدها .. بل سقط شعب ألمانيا كله مرة واحدة، وأبيحت المدينة لمدة خمسين ساعة، تعلم الألمان خلالها درساً لا يمكن نسيانه قط. وكان الحلفاء إذ ذاك يرابطون في منطقة الألب ويحيلونها إلى جحيم آخر مثل جحيم برلين.
انتهت ألمانيا ووقعت وثيقة استسلامها بدون قيد أو شرط، ثم قرر ترومان أن يلقي لعبته الذرية فوق رأس إمبراطور اليابان وجلس الإمبراطور منكس الرأس لكي يوقع وثيقة استسلام أخرى، فيما رست البوارج الامريكية على طول سواحل بلاده. وتركت له سبعين ألف جندي أمريكي ليتعلم منهم الطاعة.
وتقرر أمر الحرب! وبدا أن الشعوب التي خسرته، خسرت معه كل شيء آخر، وطفق الجوع يجتاح ألمانيا بلا انقطاع حتى اضطر الرجال إلى أكل الجرابيع والفئران، فقد حرم عليهم الحلفاء كل شيء حتى صيد السمك والعصافير، فيما انطلقت النساء وراء الجنود المنتصرين عارضات أنفسهن للبيع مقابل كسرة من الخبز الحاف!.
حدث ذلك في ألمانيا واليابان وإيطاليا على السواء، وحدث في البلدان الفقيرة الأخرى التي لم تشارك في الحرب قط. ولم يكن ثمة ما يمكن حدوثه أسوأ من ذلك فقد استقر الإنسان على القاع الذي لا قاع وراءه.
وأعلن أكثر الفلاسفة تفاؤلا أن سقوط شعوب المحور سقوط نهائي لا مجال للنهوض منه خلال المائة عام التالية.
ولكن، نهضت فوق أنقاض نجازاكي وهيروشيما خلال بضع سنوات صناعة عملاقة منظمة تنظيما بالغ الدقة، جعلت من اليابان إحدى دول هذا العالم الذي تمده بالحياة، فيما أنجزت ألمانيا خلال ثلاثة أعوام بناء معظم مدنها، ثم تقدمت في العام الخامس لكي تمد الولايات المتحدة نفسها بقرض مالي لأول مرة في تاريخ أمريكا. وكان إيزنهاور الذي قاد الحلفاء عبر ألمانيا هو الرئيس الذي وقع طلب هذا القرض. وبدا من الواضح أن شعوب المحور لم تدفن تحت الأنقاض.
وعندما اتجه الخبراء بأنظارهم إلى بقية دول العالم، اكتشفوا شيئا مذهلا، فالمشاكل التي خلفتها الحرب لم تتفاقم بين المتحاربين بقدر ما تفاقمت في أراضي الشعوب النامية. فالحرب لم تخسرها ألمانيا واليابان بل خسرتها الشعوب الجائعة الفقيرة في آسيا وأفريقيا.
وبدا الأمر كله مثل الألغاز السحيقة، فقد كان من الواضح أن الشعوب النامية تعاني مرضا أكثر من قسوة الحرب ونيران الدبابات، ومدافع القوقازيين الرشاشة . مرض لا تستطيع أن تحدثه قنبلة ترومان البدائية ولا أساطيل الطائرات قاذفات اللهب .. شيء اسمه الجهل المطبق الذي يستطيع أن يجعل من ذهن إنسان بسيط وكراً أسود مظلما لا أمل في إصلاحه.
وقد كان من الواضح أن الرجال الذين نهضوا فوق أنقاض الحرب وأصروا على إعادة البناء كله مرة أخرى لم يكونوا رجالاً من نوع خاص أو مخلوقات ذات مواهب لا يملكها الآخرون، بل كانوا مجرد بشر مثل سواهم لا شيء لديهم سوى القدرة على رؤية الوجه الحقيقي للمشكلة والرغبة في الإصلاح مهما كان الثمن.
وذلك شيء لا يملكه الرجال الأميون في الدول النامية، إنهم لا يستطيعون تفهم الحوادث إلا بطريقة فردية، وبقدر ما يمكنهم من الرؤية خلال عالمهم المظلم، وفيما كان سائقو العربات العامة في ألمانيا يتطوعون للمساعدة في بناء ميونيخ بعد أن ينهوا نوبتهم في العمل، كان السائقون في البلدان النامية مستعدين لقتل أي إنسان يطلب منهم ذلك.
وفيما كان الألمان يستثمرون مساعدات أمريكا في بناء مصانعهم، كان الرجال الأميون في الدول النامية يجمعون تلك المساعدات في وسائدهم خلال عمليات السرقة المزرية ليشتروا بها سيارات ألمانيا المتينة البناء.
ولم يكن ثمة فرق بين هؤلاء الرجال سوى أن أحدهم قادر على رؤية المشكلة من جوانبها، فيما ظل الآخر لا يرى سوى جزء واحد من الطريق.
فالجاهل لا يمكن إنقاذه قط .. إنه مثل أحد السكارى لا يمكن إقناعه بشيء، وليس ثمة فرصة لمنعه من ارتكاب ما يشاء إلا أن تكتفه بأحد الحبال، أو تقتله أو تجعله يصحو .
فإذا تركته وشأنه، فأنت تتركه للصدفة وحدها، ولكنك لن تستطيع أن تعتمد عليه أبدا.
فالجهل لا يقف عند حد، وهو ليس الأمية وحدها، ولكن الجهل مرض من نوع آخر. مرض يجعل الإنسان أي إنسان مخلوقا أنانياً خالياً خلواً تاماً من أي إحساس بواجب التضحية والنظام تجاه الآخرين.
وذلك هو الجهل الذي لا شفاء منه، إنه المرض الذي يصيب أحد الناس سواء كان يحسن القراءة أو لا يحسنها ويجعله لا يرى شيئا سوى طريقه الخاص. يجعله مثل أحد السكارى غير قادر على رؤية الحقيقة التي تقع خارج رأسه المصاب بالدوار.
والمشكلة أن الإنسان الجاهل لا يمكن اعتباره مذنبا. فهو لم يرتكب إثما يعرف أنه إثم ولم يفعل شيئا قط باعتبار أنه خطأ، فكل مقاييسه عاجزة عن إدراك الأصل.
إنها «أي الشعوب النامية» لن تكون قادرة على النهوض المجدي إلا إذا تعلمت الطريق إلى اكتساب المعرفة المجدية، المعرفة التي تستطيع أن تأخذ بيد الإنسان عبر السبل المتفرعة لكي يتخلى عن أنانيته وأهدافه الصغيرة وتفاهاته ويمضي في اتجاه الآخرين ليقدم لهم ما يقدر عليه.
فالإنسان لا يعيش في ألمانيا وحدها ولم تنجب أمهات الآخرين بغالاً عمياء ولكن الظروف المريبة فعلت ذلك، ولا بد أن تغير هذه الظروف الآن، إذا أرادت تلك البلدان أن لا تظل نامية إلى الأبد . فقد سرقها الوقت وهي تحلم بالمطر.
يا رب دع سماءك تمطر كتباً. دعها تمطر مدارس جيدة ومعلمين وكتباً، وسوف نصنع نحن المطر، ونغسل عارنا».
ما رأيكم؟.
هذه أجزاء لمقاله بعنوان «المرض» كتبها الصادق النيهوم في 14 أغسطس 1966م فهل هناك مجال بعد لما يقال أو لأية إضافة بعد ما قاله الصادق؟.. ربما ليس هناك مجال للإضافة ولكن هناك الكثير من التوضيح.
ومنذ أن قرأت للصادق النيهوم كتابه «معركة بلا راية» الذي يحمل مجموعة أخرى من مقالاته قبل 20 سنة وأنا أحد الناهلين من نبع كتاباته، ما استطعت إليها وصولا، وعندما وقع كتابه هذا فيّ قرأته التهمته بنهم. كنت أقرأ الكتاب متوسلا أن يساعد في جلب الوسن إلى عيني فأحالني وجع «المرض» إلى الأرق وجفاني النوم، ليلتها، لساعات، إذ أن مقالتين أوجعتاني إحداهما هذه.
ليست المشكلة في اللصوص أو المتسلطين أو البيروقطرايين أو المنتفعين ولكنها تكمن أساسا في الجهلة سواء كانوا مثقفين أو كتّاباً أو أساتذة أو متعلمين فحسب. أولئك الذين يملؤون الصحف بحديثهم الأجوف تعلوه صورهم البراقة، ويتصدرون المجالس ويتربعون على كل الموائد وإذا جاء آخر الليل خرجوا باستنتاجاتهم العبقرية «كان على الحكومة أن تفعل كذا وكذا» و«على الحكومة أن تترك المجال لكذا وكذا».
منذ سنوات حالفني الحظ بأن أجلس إلى مجموعة من المثقفين ودار الحوار حول تقصير رجال الأعمال في رعاية الأعمال التطوعية وتبني الأعمال الثقافية. وإحقاقا للحق كنت أنا الذي أكيل النقائص لرجال الأعمال في هذا المجال. وتصدى لي كاتب باسم، له في السوق كتاب ظريف أو اثنان، وكان محورا ردوده عاملين: الأول، ماذا عملت الحكومة لرجال الأعمال كي يقوموا بذلك الدور. والثاني أن رجال الأعمال والشركات في الغرب تخضع لنظام الضرائب وتبرعها بجزء من مكاسبها يخفض من قيمة الضرائب.
وإحقاقاً للحق خرجت من الحوار كسيراً خاسراً تحوطني ابتسامات بقية المثقفين الحاضرين. ولعل ابتساماتهم لم تكن من باب العزاء والتشجيع، بل إشفاقاً على عقلي الصغير الذي لا يعي الأمور الكبيرة التي لا يعيشها إلا أولي العزم من الراسخين في الثقافة.
ولكني ما زلت مصرا على أن ذلك لم يكن جوهر القضية، وعلى تهافت تلك الحجج. يا للّه العجب! هل يمتنع الثري عن القيام بعمل خير للناس إذا لم تساعده الحكومة في تنمية ثروته، وكأنه مستثمر أجنبي، في أرض غريبة، وأناس لا علاقة له بهم؟! ناهيكم عن أن الجميع يعرف أن كل المشاريع الكبيرة تقوم على دعم حكومي كبير، وقروض بلا أرباح بل بشروط ميسرة. وأن القطاع الخاص لا يعيش من إبداعاته بل يتعيش على الإنفاق الحكومي، ثم هل يجب أن تفرض الحكومة ضرائب كي يقوم رجال الأعمال بالتبرع؟.
وبغض النظر عن تفاهة تلك الحجج أو وجاتها. فليس هذا بيت القصيد. وإنما حجر الزاوية هنا هو ضيق الأفق وقصور الرؤية من جانب الجهلة، لأن أهمية الأعمال التطوعية والمشاريع الخيرية تقاس بفائدتها للناس البسطاء. ومربط الفرس هو الإحساس بالواجب تجاه الوطن وناسه وثقافته بغض النظر عن دور الحكومة.
ولا أدري لماذا ندخل الحكومة في كل شيء! قد يكون معه بعض الحق لو قال إن الحكومة تعرقل المشاريع الخيرية أو تمنعها . بل حتى لو كان هناك تقصير في دور الحكومة لماذا يحرم المواطن مما هو خير لهم؟.. كي أوضح ما أعني عليّ أن أقدم مثلا، مجرد مثال من وحي الخيال: شقّ الطرق أو تعبيدها مسؤولية وزارة المواصلات، والقرية الفلانية بحاجة لطريق معبد ولكن لسبب ما لم تقم الوزارة بذلك. ولنفترض أن السبب تقصير واضح من الوزارة المعنية، هل يمنع ذلك أن يتولى بعض رجال الأعمال تعبيد ذلك الطريق تبرعاً؟ ومن سيستفيد من ذلك الطريق؟.
أنا أعلم تماماً أن الكثير من رجال الأعمال يخرجون عن طيب خاطر أموالاً طائلة زكاة عن أموالهم، ويتصدقون بملايين أو بمليارات الريالات. ولكن ما هو الأكثر فائدة لأسرة محتاجة: فلوس تأتي وقتا وتغيب آخر، أو تأهيل عائلهم وتوظيفه؟ نقود قلّت أو كثرت أو تولي نفقات علاج عائلها المريض؟ ما هي أكثر فائدة لشخص جائع: وجبة ساخنة من أرقى المطاعم أو فأس يحتطب بها ليبيع الحطب . ما هو أكثر فائدة للوطن: فقراء يتسولون ، أو فقراء يعملون وينتجون ويشعرون بكرامتهم وإنسانيتهم؟.
ما سبق كانت مجرد أمثلة، بل أن الاستشهاد بذلك الحوار ودور رجال الأعمال ما هو إلا مجرد مثال مرض ضعف «القدرة على رؤية الوجه الحقيقي للمشكلة والرغبة في الإصلاح مهما كان الثمن» المتفشي بيننا جميعا.
منذ أسابيع كنت ضيفا مشاركاً في ندوة حول «تنمية ثقافة الطفل» في الجمعية السعودية للثقافة والفنون. وقلت إن الثقافة لا تنحصر في كم الكتب والقصص والمسرحيات ولوحات الرسم ولكنها تتجاوز ذلك الى المضمون والى سلوك يومي وشعور بالوطنية والانتماء.
وطالبت برفع الوصاية عن الأطفال وأن يتعلم الأطفال كيف يفكرون ويبدعون ويستنتجون بحرية لا أن نجعلهم يفكرون كما نفكر نحن.
وضربت مثلا بما حدث في الدول الشيوعية حيث كان الطفل يلقم أيديولوجيا النظام منذ نعومة أظفاره وعندما أتى أمر اللّه لم يغن ذلك شيئا وسقطت الأنظمة، وتكشفت عن شعوب بائسة وحكومات متسولة. وبالتأكيد لم يعجب حديثي البعض وذلك لنزعة البارانويا المتفشية وكذلك للخلط السائد بين الثوابت والمتغيرات.
ولكني كنت أدعو الى أمور بسيطة. فقد دار الحديث أيضا عن أن الجيل القادم «خرع» بفعل الرفاهية والخدم والسائقين. ولحدود وقت الندوة لم أقل التالي:
تخيلوا لو منع الأهالي السائقين من حمل حقائب أبنائهم من باب المدرسة حتى السيارة، وبالعكس؟ لو قررت المدرسة أن يقوم الطلبة ببحوث صغيرة عن أي شيء مثل من أين يشتري الطلبة القرطاسية، أو من أي أحياء يقدمون، أو متوسط أطوال الطلبة وأعمارهم ...الخ؟ لو قررت أن يقوم الطلبة بالتناوب بجمع النفايات من فناء المدرسة؟ لو قررت أن يقوم الطلبة بالتناوب بتنظيم مرور السيارات التي تتكدس بشكل مزرٍ أمام البوابة؟.
ما أطلبه هو المبادرة والتطوع لا انتظار قرار من وزارة المعارف أو مجلس الوزراء.
المقصود ببساطة: هل يتكرم المرء أي فرد منا، مهما كان موقعه ، علا أو دنا، ومهما كان ماله، قلّ أو كثر بإيقاد شمعة، أم يكتفي بلعن الظلام؟ هذه هي المسألة.
فاكس 4782781 fahads@suhuf.net.sa
|
|
|
|
|