الأمة العربية في جاهليتها ذات قيم تعتمد عليها ومثل تسترشد بها، فهي توقف الحرب في الأشهر الحرم، فيلتقي الرجل بقاتل أبيه ولا يرفع عليه سيفه، ويحدث ذلك في الأسواق وفي غيرها لأن الأمة تلتزم بمبادئها الثابتة، ويتعرف أصحاب الثأر على غرمائهم في هذه الأشهر، حتى يتسنى لهم ملاحقتهم في أشهر الحل، وقد يعمد الأبطال إلى وضع علامة علي رؤوسهم إمعاناً في تحدي من يطلبهم. ومن مُثُل الأمة العربية في الجاهلية حماية الذمار، فالرجل الحق هو من يحمي الذمار، فكل ما يُتَذَمَّرُ من فقده أو القدح فيه فهو ذمار، فواجب الرجل حماية حريمه من نساء وأطفال ومال وكل ما يحرم على غيره، كما أن من واجب الرجل صيانة نسبه وحسبه، فلا يعرض نسبه للإهانة، ولا يفتقد شيئاً من الفضائل التي اكتسبتها أسرته، عن طريق أعمال آبائه وأجداده، من كرم وحماية جار وشجاعة وغيرها. ومن مثل الأمة فك العاني، وهو الأسير الخاضع لأمر آسره، فالحروب عند العرب تصحبها أخلاق الفروسية البعيدة عن الحقد
والتشفي والتعذيب والسجن، ولذلك فإن الفارس يعد إطلاق أسيره مفخرة تضاف إلى ما حصله من حَسَب، يقول حاتم الطائي:
أَمَاوِيَّ، إنِّي رُبَّ وَاحِدِ أُمِّهِ
أَجَرْتُ، فلا قَتْلٌ عليه ولاَ أَسْرُ
ومن مثل العرب إطعام الجائع وإكرام الضيف، فلو تتبعنا أشعار العرب وخطبهم وأمثالهم وحكمهم لوجدناها تحث على إكرام الضيف والجار والقريب، فالعربي يوطىء فراشه لضيفه، ويشعل ناره لتدفئته، ويذبح كرائم ماله قِرى له، والتساهل في إكرام الضيف مسبة تلحق العار بصاحبها وبأسرته وقبيلته.
فجل مادة الفخر تتعلق بإكرام الضيف، وجل ما يمدح به الرجل الكرم، ومادة الهجاء متعلقة بعدم إكرام الضيف، فإطعام الطعام له شأن في الجاهلية، وكرم حاتم الطائي أوصله إلى قمة المجد، فهو رأس الكرم، وعلامة الجود، وعنوان البذل، يقول حاتم الطائي في الحث على الكرم:
أَمَاوِيَّ إِنَّ المَالَ غَادٍ وَرَائحُ
وَيَبْقَى من المَالِ الأَحَاديثُ والذِّكْرُ
وقد عرف عن حاتم الطائي أنه لا يرد طالب حاجة. ومن مثل العرب مساعدة المسافر المنقطع، فهم لايتركونه في الصحراء بل ينتشلونه ويحملونه إلى وجهته التي يريدها، يقول حاتم:
إِذا كنتَ ربّاً للقَلوُصِ فلا تَدَعْ
رَفيقَكَ يَمْشي خَلْفَهَا غَيْرَ رَاكِب
أَنِخْهَا فَأرْدِفْهُ، فإن حَمَلَتْكُماَ
فَذَاكَ، وَإِنْ كاَنَ العِقَابُ فَعَاقِبِ
ومن مثل العرب إفشاء السلام، لما فيه من التقريب بين النفوس، والبشاشة في وجه صاحبك، هذه المثل التزم بها العرب التزاماً ساد بينهم، فالذي يقتل في الأشهر الحرم يعد غادراً، ترفع له راية غدر في سوق عكاظ، بل إن من يخل بهذه المثل فإنه يخرج عن الإجماع العربي وينبذ ويبعد عن قبيلته.
وعندما جاء الإسلام أقر مكارم الأخلاق التي تعارف عليها العرب، وعدها مما يحث عليه فحماية الذمار صيانة للأسرة، من نساء وأطفال، وحماية الأموال حق من حقوق الرجل، فقد أتاح الإسلام الدفاع عن كل حق من مال أو حريم، وقد ضرب المسلمون أروع الأمثال في فك الأسرى، ففي معركة بدر وهي أول معركة يخوضها المسلمون ضد الشرك والمشركين لم يقتل المسلمون أسراهم، وإنما أحسنوا معاملتهم، واشترطوا عليهم شروطاً ميسرة، تتيح لهم الحرية بعد الالتزام بها، وحث الإسلام على إطعام الطعام، ففرض الزكاة وبين مصارفها، كما حث على الصدقات، وقد تسابق الصحابة إلى طرق البذل والعطاء، فعثمان بن عفان رضي الله عنه سبق غيره، فأسقى الماء، بأن اشترى بئراً في المدينة وجعلها متاحة لكل شارب، وجهز جيوش المسلمين بأمواله، وساعد الفقراء في أيام المجاعة، وأسهم الصحابة في طرق البذل وإن لم يصلوا إلى بذل عثمان، وإفشاء السلام حث عليه الإسلام، وقد وردت الأحاديث مرغبة فيه، فتسابق المسلمون إلى إفشاء السلام، لقد التقت المثل الجاهلية بتعاليم الإسلام في مكارم الأخلاق، فعندما أسر المسلمون سَفَّانة بنت حاتم الطائي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يامحمد إن رأيت أن تُخَلِّي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي. وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع ويكسو العاري، ويَقْرِي الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ياجارية هذه صفة المؤمنين حقاَ، لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق.