| مقـالات
وإذ تعيش الأمة العربية والإسلامية والعالم بأسره حالة من التوتر والغليان، وعشوائية في التخبط، فإن على الناجين من أعاصيرها، أن يرعوا هذه المكتسبات، وألا يتقحم أحد منهم بقول أو بفعل ما يؤجج غطرسة القوة، ويدفعها إلى كسب الرأي العام، واتخاذ موقف استعدائي ضد دولة تؤثر السلامة، وتجنح للسلام، وقدوتنا في اعتزال الغليان والانفجار، ما اختاره الورعون من الصحابة رضوان الله عليهم، حين اشتعلت الفتنة الكبرى، حيث اعتزلوها، وأغلقوا أبوابهم على أنفسهم، والإسلام شرع طريق الخلاص والنجاة، حين وجّه إلى الصبر والاحتساب والاعتزال.
والحروب المشتعلة في بقاع كثيرة من ديار المسلمين، تخوضها فصائل عرقية أو اقليمية أو دينية، تدعمها قوى خارجية، وحين تشوبها أدنى الشوائب، لا تكون مشروعة، ولا تضاف إلى الجهاد الإسلامي، ولا يجوز للممتلئين غيظاً من غطرسة القوة أن يتخذوها متنفساً لهم، والطائفتان المقتتلتان، وصفتا بالإيمان، وندب إلى قتال الباغية منهما، وعلى هذا لا يكون من مصلحة الأمة، ولا من مصلحة أحد من أفرادها التورط في تلك الحروب: قولاً أو عملاً، إلا إذا كان الدخول فيها حقناً للدماء، أو إصلاحاً لذات البين، أو تخفيفاً من معاناة الأبرياء الذين أصابتهم الفتنة، دون أن يكونوا من الضالعين فيها. على أن يكون الفعل تحت ضوء الشمس، وعبر القنوات المشروعة. وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن مشروعية القتال، جاء جوابه حاسماً وبيناً: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». و «الجهاد الإسلامي» لا يكون إلا بحاكم مسلم، يقدّر، ويدبر، ويوقت. مع اجتماع كلمة تعصم، ووحدة أمة تخيف، وقوة من صنع الأيدي ترهب، و لا يكون الجهاد إلا بعد دعوة بالغة، ومنابذة على سواء، ووفاء بعهود. وكيف يتصور جهاد، والأمة اليوم ممزقة الأشلاء، متعددة الأهواء، لم ترد الخروج ولم تعد له عدته. ذلك على مستوى المبادرة، أما صد الاعتداء والدفاع عن الحق والنفس فشيء آخر لم يلتفت المختلفون حوله ولم يتحمس المفتون من أجله، ومن بادر الحرب أو سعى لإثارتها بدون تلك المسوغات، فعليه أن يتحمل وحده تبعاتها، ولا يجوز الحديث عن تلك الفتن على أنها من الجهاد، ولا يجوز تحميل الإسلام ما لا يتأكد من إسلاميته. ومن خانه سوء التدبير أو سوء التعبير، ولم يصدر في تدبيره ولا في تعبيره عن مشورة أو مواطأة، فليس له على غيره حق، وليس من حقه القول باسم الإسلام. وما على الذين قدّروا، ودبّروا، واعتزلوا الفتنة بتقديرهم وتدبيرهم السليم أن يزجوا بمكتسباتهم، ولا أن يفرطوا بهيبتهم، ولا أن يضيعوا ثقلهم العالمي وأدوارهم الايجابية في صد العوادي.
كما أنه ليس من مصلحة الأمة نكث العهود، وحل المواثيق، ونسف قنوات الاتصال. وإذا كانت للأمة سياستها الناجحة في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وحل المشاكل، ودرء الفتن، فإن التخلي عنها مغامرة محفوفة بالمخاطر. والدعوة للمواجهة، ومسايرة المغامرين، وقوع في الفتنة، ومعانقتهم في خطاباتهم الاستعدائية تعميق وتعميم لها. والدخول في اللعب السياسية باهظ التكاليف على كلا المستويين: الحرب الباردة، والحرب الساخنة. والذين رضوا لأنفسهم ولشعوبهم مسرحة أرضهم، وتنفيذ المخططات عليها تحت أي مسمى، ثم تجرعوا مرارات الدخول في الفتنة، لا يتحفظون العقلاء بمعسول الوعود. وكم نرى ونسمع من الخطابات ممن هو ضالع في اللعبة من طوائف وفئات ودول أوْهَى من بيت العنكبوت. وإذا كان الله قد أكد للمسلمين بسماع الأذى الكبير من الذين أوتوا الكتاب، فقد أمرنا بالصبر والتقوى، وجعل ذلك من عزم الأمور. كما أنه نهى رسوله عن أن يكون في ضَيْق مما يمكرون. وخيار المسلم والتسامح في هذه الظروف أرأف بحال الأمة المستضعفة.وهل أحد يجرؤ على إعلان الجهاد، والسلاح من صنع الأعداء، والعالم يداول مشاكله في المجالس والهيئات والمؤتمرات، ويقوي نفسه بالتكتلات متعمداً نسيان ما سلف. إن حاجتنا الملحة في الجهاد الأكبر، جهاد النفس الأمارة بالسوء، وإعدادها لذروة السنام، إذ لم يكن بد منه، ولكن بعد إعداد القوة المتفوقة والمرهبة، وقد فصل الله لنا مشروعية الإقدام والإحجام في آية التخفيف.والخطوب حين تدلهم، وغطرسة القوة حين تخلع القناع، تحدو أفراد الأمة وطوائفها إلى تقوية الجبهة الداخلية بالتعاذر والتماسك، وتوحيد الخطاب، وتفويض الأمر إلى أهل الاختصاص والمسؤولية، ممن ندبوا لذلك، وجهزت لهم الإمكانيات، ووفرت لهم المعلومات، وعرفوا دخائل الأنفس ودواخل الأمور، ودوافع المواجهات، ومقاصد اللعب السياسية، وإمكانية مواجهتها، أو توقيها، وحمّلوا مسؤوليّة التفكير، والتدبير، والتوقيت، والتقدير، والدفع بالتي هي أحسن، والمصير إلى أيسر الخيارين رفقا بالأمة، وصيانة لكرامتها، وتوفيرا لهيبتها، واقتداء برسولها الرؤوف الرحيم عندما يخير بين أمرين. ولأن السياسة فن الممكن، و «الميكافيلية» على أشدها، وحكومة الصقور في أعنف حالات اهتياجها، والمطابخ السياسية تحكم صنع اللعب، وزرع الألغام، وجر الأقدام، فإنه لا مكان للاهتياج العاطفي، ولا للمزايدات، ولا لصنع النمور الورقية، واقتراف تحشيد المشاعر، وتأزيم النفوس، وتجييش الرأي العام، والتشكيك بالمواقف. ولا مكان للمبادرات الشخصية: قولاً أو عملاً. ومن شمله العهد والميثاق، وجب عليه العدول عن القول الرافض المناهض في النوازل العامة التي هيئت لها المجالس، وندب لها الأكفاء، ومن عدل عن القول المخالف محافظة على مصداقية دولته، وتمكينا لها من استغلال ظروف السلم والاتفاقات وتبادل المصالح، ومن عدل عن الفتيا درءا للفتنة، وجمعا للكلمة، فالعادلان لا يدخلان في وعيد الله للذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى، ولا في وعيد رسوله صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» وهو ما يعول عليه البعض. إذ أن من شروط وجوب الإفتاء تعينها على المفتي بالتكليف أو الخلو، وأن لا يخاف المفتي غائلة الفتيا، فإن خاف وقوع شر أكبر من الإمساك أمسك، لأن المفسدة لا تزال بمفسدة أعظم منها. ولما كان المفتي مخبرا بحكم الله عن الله بدليل لمواجهة نازلة، وجب عليه أن يراجع نفسه، قبل الاقدام على ذلك، وأن يعرف متطلبات النص المعول عليه، من ناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم، وتعارض لا يتيح الجمع، ولا يحمل على الإسقاط وقطعية دلالة وثبوت، أو احتماليتهما، ثم ليعرف أن لكل زمان ظروفه وامكانياته، وما أفتى به أو قال به علماء الأمة من السلف في ظل ظروف مواتية، لا يمكن إنزاله بحذافيره على واقع مغاير. ولهذا لزم أن يكون المفتي «مجتهداً» «أصولياً» «عالماً بالحكم» و «بالواقعة» و «بضابط الإنزال» و «بمقتضى الحال».
وتوقي كتمان العلم له طرق غير التصدر لشق عصا الطاعة، كالإرشاد، والتعليم، والفتيا في العبادات والمعاملات، وإفتاء السائل المعين باسمه مشافهة، وحين لا يكون بد من القول، فلا يجوز التضييق على الناس بالمقدم من المذاهب، متى كان هناك ما هو أيسر في ذات المذهب من أقوال، فضلاً عن المذاهب الأخرى. والرسول صلى الله عليه وسلم سكت عن الترجيح بين أقوال المختلفين، حين احتمل النص الرأيين في قضية «صلاة العصر» في بني قريظة، وهي قضية جهادية، ولو طبقنا شروط المفتي وصفته كما تداولها الأصوليون، لما جاز لكل متعلم أن يتصدر للفتيا، لأن من شروط المفتي: الاجتهاد بضوابطه، ومعرفة أصول الفقه، ومن لم يكن كذلك فهو «حاكي فقه» وما أكثر «الحكواتية» في زمننا، ممن يقولون : «نحن رجال وهم رجال».والذين يعولون في فتياهم على فتيا سلفهم، يجهلون أن زمن السلف تتكافأ فيه القوى، وتتخلف أهلية القيادات. أما اليوم فليس هناك تكافؤ، مع تخلف في أهلية القيادات والأمة، ومثل هذا الوضع يتطلب تحرفاً لصناعة الأمة، لا زجا بها في أتون الفتن. وكم نسمع من يتعطش لعودة «صلاح الدين» وكأن الأمة تفتقر إلى قائد يلملم إمكانياتها المتكافئة مع إمكانيات الآخر. وكان علينا أن نتعطش إلى أمة تتخلص من غثائيتها التي أخبر بها من لا ينطق عن الهوى، وهي التي تنتج القائد التاريخي، يقول «جوستنيان» الإمبراطور الروماني، وصاحب المدونة في «الفقه الروماني» : «إنه لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم وفي وقت الحرب لا يجد صاحب الجلالة الإمبراطور بدا من الاعتماد على ركنين:
الأسلحة. .والقوانين.
بالأسلحة يستمر قاهرا لكل عدو من الخارج يقصد الدولة بسوء، وبالقوانين يقطع دابر المظالم التي يبيتها بعض الأهالي لبعض» ذلك قوله في زمنه، أما اليوم فإن هناك مطالب حضارية، لم تُستكمل بعد، ومن أراد السلام فليستعد للحرب، وليصنع الأمة، وليقوي النظام، وليحترم القانون.
وإذا كانت أمور الجهاد، والعلاقات الدولية، وتبادل المصالح، وعقد الاتفاقات منوطة بولي الأمر المبايع على الكتاب والسنة، والمستحق للسمع والطاعة فإن على من هو خارج المسؤولية ألا يشق عصا الطاعة بقول أو فعل، وألا يحرض العامة بقبول رؤيته المخالفة لرؤية الجماعة، متى كان في الأمر فسحة. وعند تعدد الرؤى والخيارات، يلزم الأخذ برأي الجماعة، وإن كان مفضولاً. ويتحتم الإحجام عندما تشتعل الفتن، وتعظم البلوى. أما حين تستقر الأحوال فإن إبداء الرأي من حرية القول المكفولة لكل مقتدر ينشد الحق، ويعرف آداب مخاطبة السلطة، وتداول الرأي معها.
ومنازعة السلطة حقها في الخطوب يعد من مداخل الفتنة، ولا عبرة لمثيري البلبلة بدعوى الورع وإبراء الذمة، فمعرفة الحكم الشرعي وحده في قضايا السياسة ومنازلة الأعداء لا يكفي، إذ لا بد من «فقه الواقع» المتمثل: بفهم النازلة، ومثيراتها، وحجم المواجهة، وقدرة المتصدي لها: عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، وفهم اللعب السياسية، والوقوف على تفاصيل القضايا والملفات، ومعرفة النوازع والدوافع، والركون لذوي الاختصاص من أساطين السياسة، بالخبرة أو بالدراسة، واستصحاب حق الولي ومقتضيات البيعة، والفهم الدقيق لمصالح المسلمين، واعتبار إمكانياتهم، والنظر في الخيارات، والأخذ بأيسرها، ومراعاة ضعف المسلمين وأحوالهم، المتمثلة: بتقطع أمرهم، وتفرق كلمتهم، وضرب بعضهم رقاب بعض، وتصنيم حدودهم، وتقديس المفرطين من قادتهم، وتعدد ولاءاتهم، وشح أغنيائهم، وعمالة المستضعفين منهم لعدوهم، وتخلف سوادهم الأعظم، وتعلمن مترفيهم، وفقر أكثرهم، وركونهم إلى عدوهم، وعدم استغنائهم عنه، في صناعاته: السلمية والحربية، وحاجتهم إليه، لحفظ التوازن، وفك الاشتباكات، وفض المنازعات، وصد العدوان، واشتراكهم معه في منظماته، وأحلافه، وإفادته، والاستفادة منه.
فخيار المواجهة قولاً بصيغة التحدي والصلف، أو عملاً بالمناجزة غير المتكافئة، في ظل هذه الظروف المتردية، ليس هو الحل الأمثل، ولا الوحيد. ولما لم يكن بد من التحرف القولي أو العملي فإن هناك عدة مستويات مندوب إليها، ليس منها خيار الصلف في الخطاب أو الحرب في المواجهة، وما دامت الأمة متشرذمة، وفي أشد حالات الغثائية، وتحت سلطات متعددة، وأيديولوجيات متناحرة، ومستويات اجتماعية واقتصادية متفاوتة، وخلطة مستحكمة مع غيرها. وما دامت العدة غير مرهبة، وما دام الدعاة إلى الله قادرين على إبلاغ الدعوة، عبر مراكز الإسلام ومنظماته، وكافة وسائل الاتصال، وما دامت شعوب العالم غير المسلم مستعدة لسماع الدعوة، والأقليات الإسلامية تتمتع بحق المواطنة، وتتحسن أحوالها يوماً بعد يوم. فإن الحوار والحالة تلك أفضل من الصدام، والوفاق العالمي أفضل من الافتراق، والدفع بالتي هي أحسن أرفق بالمستضعفين، وبالأقليات الإسلامية، والأمة منهية عن تمني لقاء العدو، ولاسيما أن الدخول في الإسلام يبشر بمستقبل أفضل، واختراقات المسلمين لأجواء الديانات الأخرى لا يقابلها اختراقات مماثلة لأجواء الإسلام، ويكفي أن الخيرين يبنون المساجد، ويقيمون المراكز، ويندبون الدعاة، ويوزعون الكتب، ثم لا يبادلون بإقامة الكنائس في بلادهم واستقبال المبشرين. مع إن الخطابات الإسلامية عبر منظمات العنف لا تملك مشروعاً حضارياً، يضمن الاستقرار والاستغناء، حتى لقد جر تفكك الاتحاد السوفيتي غوائل بسبب واحدية القطب وغياب المعادل الإسلامي. وجرأة المفتين المحرضين على القتال أو المشرعنين للإرهاب توغر الصدور، وتؤزم المواقف، وتوقظ الغافلين عن مشاريع الدعوة إلى الإسلام. وتصفية الثارات، ورد الظلم لا يكون بالغدر، ولا يكون بالعنف. وما كان العلماء المجتهدون الأصوليون يتسرعون في فتيا العبادات والمعاملات، فكيف «بحاكي فقه» يتصدر للفتيا في مصائر الأمة، مناهضا لولي الأمر، مخالفاً لفتيا المكلف، قادحاً في عدالته، طاعنا في أمانته.والعقلاء الورعون من علماء الأمة من يدفعون بالسائل إلى من يليهم، خوفاً على أنفسهم من زلة عالم تطال مصلحة الأمة، فضلاً عن أن يبادروا إلى القول في النوازل المصيرية، وقد كفوا مؤونة ذلك بمن هم أهل للفتيا، ومسؤولون عنها. وليس هناك ما يحمل على التزاحم على منابر القول، ومراكز المعلومات، لتبرير الإرهاب، أو للتحريض على المواجهة، أو لشرعنة الحروب العرقية والطائفية والتسلطية والسلطوية، وإضفاء قدسية الجهاد الإسلامي عليها، ولاسيما إذا اهتاج الأقوياء لضر مسهم، وملكوا شرعية الرد العنيف لمن غزاهم في عقر دارهم. والقول عندما تُعمى الأمور، وتدلهم الخطوب كالفعل، فالذي يضرب بسيفه، كمن يضرب بلسانه. فذلك يفعل، وهذا يدفع إلى الفعل، ومن ظن أن كلمته غير المحكمة، وغير الممحصة، تطير في الهواء، فقد وهم. فما أشعل الحروب إلا بوادرُ القول، وما تفرقت الأمة إلا باختلاف علمائها ومفكريها، وما كَبَّ الناسَ في النار على مناخرهم إلا حصائِدُ ألسنتهم، وليس من المصلحة العودة إلى ما كانت عليه طوائف التطرف والعنف الديني: كالخوارج، والقرامطة، والمعتزلة، ممن جروا الويل والثبور وعظائم الأمور على علماء الأمة وعامتها. ولعلنا نستعيد ما هو دون ذلك، وهو فعل «العامة ببغداد» في القرنين الثالث والرابع الهجري، ومطاردتهم لمن خالف رأيهم، وبخاصة «الفصل الثامن عشر» «ص 465» من كتاب «العامة ببغداد». وتعصب كل طائفة وإعجابها برأيها مؤذن بإعادة التاريخ، فالذين يخوضون معارك السلاح، ليسوا بأسوء حال ممن يخوضون جدل القول. واختلاف الآراء بين الناصحين العقلاء الصادقين المخلصين لا يؤدي بالضرورة إلى التنازع، وتصفية السمعة أو الجسد، وإنما يحيل إلى المراجعة وتداول الآراء، والتماس الحق، ثم القطع والعزم والتوكل، ومن لم يؤخذ برأيه، وجب عليه السمع والطاعة والتسليم، ومن بحث عن الانتصار أو الكسب صعب عليه الإذعان، وكيف لا نقبل بالتغليب، ونحترم الأغلبية، وبعض أحكام الشريعة مدار حظرها وإباحتها على التغلب، فإذا غلب الخير على ما دونه شرّع. والرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي من السماء، استشار أصحابه، وألح في طلب المشورة، ولم يجد بأساً في العدول عن رأيه.
ولا يليق بالعلماء والمفكرين أن يحملهم العجب بالرأي، والإصرار عليه، على مفارقة الجماعة، ولا على النيل من أندادهم المخالفين أو المتوقفين. وسكرات الفتن تفرز حقائق النتائج التي تصيب الجانحين إلى الوئام، والمتذرعين بالصبر والتقوى، وما نشاهده ونسمعه، وما نستدعيه من مراكز المعلومات، وما يتبادله البعض من مسترجعات ومصورات، وما تضخه قنوات الإثارة، وما يسره الفضوليون، وما يعلنونه، لا يبشر بخير، ولا يبعث على اطمئنان، فالمتقحمون بأقلامهم وألسنتهم إن هم إلا يوقدون نار الفتنة، فطائفة تؤيد، وأخرى تعارض، وثالثة تفسّق، ورابعة تكفّر، وعالم جليل يخون، ومفكر ناصح يتهم، ومخلص تشاع عنه قالة السوء. والنفوس مليئة بالحقد والضغينة، وظاهرة التصنيف والاتهام على أشدهما، لا يهاب سلطان، ولا يحترم عالم، ولا تقال عثرة، ولا يلتمس عذر، وما أحد أحسن الظن بالمخطئ، ونبه إلى الصواب برفق، بل كل يدعي أن قوله صدق لا يحتمل الكذب، وقول غيره كذب لا يحتمل الصواب. وتلك ظواهر ما عرفناها، وما كانت من أخلاقيات السلف الصالح، الذين إذا ادلهمت الفتن اعتصموا بحبل الله، وردوا خلافهم إليه وإلى رسوله، ثم لا تكون لهم الخيرة. ولو أن المتنازعين لزموا جماعة المسلمين، وأيقنوا أن من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولو أنهم توقوا الابتداع واتباع الهوى، والتعصب والتحزب لكان خيرا لهم، ومثل هذا التدافع على القول عبر المنابر والمنشورات ومراكز المعلومات والقنوات، والتهافت على الأضواء، وكسب الغوغاء مخل بالمروءة، مشكك بالمصداقية، طاعن في الإخلاص.وما يرافق من أخبار عبر المواقع أشد خطرا مما يراق من دماء في ساحات القتال. فأين الورع؟ وأين الخوف؟ وأين سلامة الصدور؟ وأين حسن الظن؟ وأين النوايا السليمة؟ وأين حرمة المسلم التي قال عنها المصطفى في «حجة الوداع» ما تقشعر له الجلود؟ وأين مذهب السلف الصالح في التعامل مع المخالف؟ لماذا تحولت الصفوة المؤملة في الظروف الحالكة من التفكير إلى التكفير، ومن التحري إلى الجزم، ومن الورع إلى الجرأة، ومن الإيثار إلى الأثرة، ومن حب السلامة إلى الجماح في فجاج الفتنة؟. وإذا كنا نحتمل لغط العامة في مجالسهم، فإن مقولات النخب وثائق تصب في أوعية من يتربصون بالأمة الدوائر. والدول القوية الظالمة تتعقب زلات العلماء والمفكرين، ممن يقولون عن النوازل والأحداث دون تروّ أو تمحيص، تحلل، وتستثمر، وتحتج، وتثبط عزائم الناصحين. وأنى للخائضين في لجج الفتن المصدر المحايد، الذي ينقل لهم الحدث بكل دقة وأمانة وصدق. والعدو المتربص هو الذي يبث الأخبار، وينتقي الصور، ويصنع الرأي العام، ويستفز المتسرعين، ثم يدفعهم إلى قول متشنج، لا يغير من الوضع شيئا، وإلى فعل متهور لا يقلب موازين القوى، والعدو المتربص المترصد يحيل آراءهم وأفعالهم إلى مواقف دولتهم، فيصيب هدفين بضربة واحدة: يكسب الرأي العام، ويفرق كلمة الأمة، ويثبط عزيمة الدولة. والعقلاء العالمون، يفوتون الفرص على الانتهازيين، ويحولون دون اختراقاتهم، والبلاد التي أطعمها الله من جُوع، وآمنها من خوف، ووقاها مصارع الفتن، وحماها من أعاصير السياسة، ومن صلف الثوريين، ومغامرات الحزبيين، وفجور العلمانيين، عليها أن تعرف أن ذلك ناتج تصرف حكيم، وتوفيق من رب رحيم، وعليها أن تعرف أن استبداد كل عالم أو مفكر برأيه واستقلاله بفعله يعد بداية تفكك، ونذير تفرق، وظاهرة اختلاف، وذلك مؤذن بزوال النعم، ولسنا دعاة تزكية لأحد، وإنما نحن دعاة اعتزال للفتنة، ولزوم للجماعة، وتحر للصواب.
|
|
|
|
|