| الاخيــرة
* لم تغادرني بعد بعض ذكريات الطفولة، مكاناً وزماناً ووقائع، ولم تبرح مشاهد الكثير منها خاطري رغم السنين، منها مشهد راعي الغنم عبدالرحمن السدحان، ذي الأحد عشر ربيعا، يهيم مع اغنامه عبر الجبال والسهول المحيطة بمزرعة جده لأمه، القريبة من مدينة أبها، من شروق الشمس حتى غروبها كل يوم من أيام الأسبوع عدا يوم الثلاثاء، فقد كان هذا اليوم موعد (المهرجان) الأسبوعي ل(سوق الثلاثاء) بمدينة أبها.
حيث يشد الناس الرحال إليه من القرى البعيدة والمجاورة للمدينة لبيع منتجاتهم وشراء ما يحتاجونه من عُدَد العيش وعتاده، وكنت اشارك جدي رحلته الأسبوعية إلى هذا السوق ممتطياً معه (متن) حماره الضخم، وكان الجد الحنون يلف ذراعه حول جسمي النحيل خشية سقوطي من على ظهر الحمار متأثراً بوعورة الطريق. واليوم، كلما ربطت حزام الأمان في السيارة أو الطائرة، ذكرت ذلك الموقف الحميم!
* * *
* لم تكن تنافس وحدة الراعي عبدالرحمن سوى حركة الاغنام من حوله، أو شدو الطيور العابرة، وهو يحاول قهر وحدته بالجمع بين لهو الطفل وجد الرجل، فينثر انتباهه بين قطيع الغنم المنتشر ذات اليمين وذات الشمال، وبين (هواية) بناء القلاع والحصون من حجر الجبال!
* * *
* واحيانا يشغل وقته بحفظ بعض قصار السور من المصحف المطهر الذي يحتل الحيز الأكبر من مخلاته(1) أو الكتابة على قصاصات من الورق، مستخدما ريشة منحوتة من ساق نبات (اليراع)(2)، ومداداً مستخرجاً من الفحم الناعم، في غياب قلم الرصاص، وهو يفعل ما يفعل تحضيراً لدرس المساء على يد جده الشيخ، ليسمعه ما حفظ أو يتلو عليه ما كتب مستنيراً بضوء مصباح (الكيروسين)!
* * *
أما مشهد التحضير للعيد ولبس الجديد، فذاك من أجمل مشاهد الطفولة، يبدأ بنهاية العشر الأولى من رمضان، ويتراءى لي الآن الطفل عبدالرحمن وهو يحمل في وله وحماس النسيج الخام لمشروع (ثوب العيد) إلى العم علي الشهري رحمه الله، المزارع و (مصمم أزياء) أهل القرية، ويظل الطفل عبدالرحمن يتابع في لهفة مهمة انجاز الثوب، عبر رحلات مكوكية سيراً على الاقدام إلى منزل (المصمم)، وفي كل مرة، كان يفجعه بعفويته الهادئة، قائلاً: (عافية يا ولدي، لس قد الصبح العيد).. بمعنى (تريث.. فليس الغد عيداً)، هنا يلزم الطفل الصبر، حتى ليكاد يمله الصبر، ويعود من حيث أتى بحسرة حنين!
زامبيا رويترز: زعيم حزب المعارضة المتحد للتنمية الوطنية أندرسون مازدكا يصل الى مركز ملنقيشي في لوساكا حيث رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات.
وهناك مشهد ثالث ظل مرتبطا بمسرح طفولة عبدالرحمن السدحان بضع سنين، وهو الغدو صباحا إلى المدرسة الابتدائية في أبها سيراً على الاقدام عبر طريق جبلي موحش، ثم العودة منها قبيل رحيل الاصيل، وكان هاجس الأمن من الكلاب الضالة ضالته، وخاصة كلب الحاج الشيخ (الطائفي) الذي يحرس منزله في سفح الجبل المجاور للطريق. واحيانا يعمر الطريق ذاته متسوقون من القرى المجاورة، فيجد في رفقتهم أنساً وامناً!
* *
ولن ينسى الطفل عبدالرحمن ذكرى سفره من أبها إلى جازان ذات صيف لحاقا بوالده، طيب الله ثراه، مع قافلة من الجمال المحملة بعروض التجارة، استغرقت الرحلة ستة أيام وليال، وكان العم (بن صالح).. قائد الحملة يشد وثاق الطفل ليلاً على ظهر احد الجمال خوفاً عليه من السقوط.
ويظل الطفل يراقب النجوم، ويستمع إلى حدو رفاق الرحلة، قبل أن يسرقه الكرى حتى مطلع الفجر، ثم يتوقف الموكب للراحة والطعام حتى الاصيل، وحين يستأنف الرحيل يعود الطفل إلى ظهر راحلته من جديد، ويعود إليه وثاقه! وتلمع في ذاكرة طفل الأمس مشهد الجمل الذي كان يلي الناقة المخصصة له ضمن القافلة، فقد كان ذلك الجمل (المراهق) يتحرش بالناقة، فتجفل منه، محبطة ما يريد، وكانت حركة الرفض تؤرق الطفل عبدالرحمن وتحرمه بعض المنام!
(1) المخلاة: كيس من القماش يستخدم لحمل مواد الدراسة.
(2) اليراع: نوع من النبات ذي الساق الطويلة، كساق نبتة الذرة.
|
|
|
|
|