| مقـالات
كل شيء يتغير مع الوقت إلا الحنين، يبقى وحده الألق الأكثر بهاءً من ربيع، كان الحنين توءمي، كان قوتي واحتمالي؟ أسكتّه طويلاً لكنه ارتفع كزنبق الحقول، جرَّ قلبي وخطاي أن أعود، اتنشق الهواء، أعانق الشجر ان أعيد صورة بيتنا القديم وأهلي وصحبي وكل ذكرياتي. أكثر ماكان يعيق تفكيري في الطريق إلى الشام هو امتلائي حباً وشوقاً وخوفي من مرور كل ذلك الوقت وأنا أهذي بحنيني بيني وبين نفسي، بين نفسي وبين جدراني، كبرت عيناي في مسافة الطريق الفاصلة بين توقي وخوفي.
آلاف الصور صعدت إلى مخيلتي، ذاكرتي قفير نحلٍ وأنا بحالي أرتجف ضعفاً، أرتجف قوةً، أرتجف من مسافة الفرح.. شاء الوقت ذاك البعاد، شاء استسلامنا للدنيا ذاك التناسي، وبين مشيئة الوقت والاستسلام كنت أترغ طويلاً، أحلم عميقاً بيوم يختصر السنين، يمحو غبارها عن وجهي ويدي، كانت الشام بيتي، كانت حبي وألعابي، كانت صخرتي ولغتي، وأشعاري، كانت رسومي، جنوني، تعقلي واكتئابي كانت أناي، وأناي نادرة الحسن بين الجموع.
حين وصلت مشارف الشام فتحت عيني وسيعاً على كل نبتة، على كل حجر، على كل صمت وصخب، فتحت شباك السيارة، تنشقت الهواء توزع هواء الشام في كل مساحات الفرح، انتفضت مثلما مَنْ باغتته الحياة، رجعت طفلة، أحسست الضوء يقطر من نهايات أصابعي. وقعت علي وجهي دموع سخية، نقية مثل التي بللت وجوهنا في الصغر، كل الأبواب فتحت لي بالحب والشوق واللهفة، وأحسست بأني متوجة بحنيني وأني مازلت طفلتهم المحبوبة، توجوني بالحب والحنان، توجوني بدفء الدنيا، عانقتهم بعنف مرور الوقت وبعنف خطى السنين، أحببتهم بطهر ألم الغياب، وجوههم مازالت هي، أصواتهم مازالت هي، براءتهم مازالت هي، حبهم كنزي الغالي الجميل، بينهم صغار جاءوا في غفلة الغياب أحببتهم، قبلتهم كانوا يحومون حولي مثل فراشات أتعبها حب الحياة.
بعضهم كبر وتجمل، كهول منهم شاخوا، وشيوخ باتوا على حافة الوقت، تدثرت بدفئهم جميعاً وقلت: ماعندي سوى ماء العيون وينابيع حب لاتنضب، وصوت شوق في الأعماق يتردد في سكون الروح، يترقرق صافياً كمياه في أعالي الجبال.
صعدت إلى قاسيون، أردت ان أرى الشام كلها دفعة واحدة وقفت، حدقت طويلاً كانت النسائم باردة، ارتجفت يداي وقلبي، امتلأت عيناي بكل الشام، كانت تلتمع بأنوارها مثل عروس خجلى، هادئة جميلة، كبحيرة من جواهر.
كم هو جميل ان نملك مثل هذه العيون، مثل هذه الأرض مثل هذه النعمة من الجمال.
لم ينسني أحد مثلما لم أنس أحداً، مثلما لم أنس شيئاً، فقط عيناي في قبة كآبتهما، جمحتا قليلاً فكان في القلب شيء يشبه الحزن في نزاهته، أغلقت ياقة قميصي وكأني أحبس في الصدر صرخة، أو صورة الشام، صورة طفولتي، صورة نفسي، وكأني كنت على حافة خوفي من ان ينتزعها مني أحد.
لكن لا.. لا أحد يقوى!! هي وشم في أعماقي، إنها سيماي الأندر جمالا من كل حسن. ما كان للوقت عمر هناك، كل ما أعرف أنني سامحت ظلم الأوقات، سامحت ظلم الغياب، وأن الوقت صار جميلاً وجماله هو تلك الوجوه المحبة التي تأسر القلب والروح.. صور أهلي الأحبة، وذكريات الطفولة، كل ما أعرف أنه لم يكن سهلاً ان أترك كل شيء وأعود.. حيث غرفتي تنتظرني، حيث أوراقي تنتظر ان أقول، حيث مكتبي وجهاز الفاكس والهاتف، حيث أقول.. وماذا تراني أقول.. حيث أكتب.. وماذا تراني أكتب..!!
رحلتي الصغيرة.. يوم اختصر كل سنيّ الغياب، يوم مليء هارب من الزمن كبر عليّ لعله كان حلماً.. من يدري!!
وقفة..
تسأل عني..إني بخير
لكن ألف عذاب يطاردني
أرى وجهك في كل الوجوه
وأعرف جيداً ان وجهك لايتكرر
فيحاصرني الزمان والمكان
وأهرب من ذكرى الأماكن .. كل الأماكن
ومع ذلك تحاصرني.. ماذا تتوقع؟!!
أي مكان؟ وأي حدود؟!
لم أعد أتذكر تفاصيل الزوايا
ولكنني مشتاقة لأماكن ذهبناها معاً
وطرق مشيناها سوياً
وضحكات، ضحكناها سوياً
صرت أنا الغربة
وصرت أنت أينما كنت المكان
تسأل عني؟؟
إنني بخير..
لكن حزناً يطل من عيني، يفضحني
يثير الدهشة من حولي
إني إليك لا أشتاق فقط.. ولا أحن فقط..
ولا أتلهف، بل أكثر من هذا بكثير
مازلت أحلم.. ولكن خوفي ان يطول الحلم عندي
ويطول الصمت منك.. وأن يكبر مع العمر حزني
أريد حضورك أن يهطل..
لكي أكون فعلاً بخير
ص.ب 40799
الرياض 11511
|
|
|
|
|