| أفاق اسلامية
تحقيق يوسف بن ناصر البواردي
للمسلم في تصرم الأيام عبر ودروس وبها فرص يحسن الاغتنام من يلتمسها وفي المقابل يسقط من فرط ويفرط.وتأتي المحصلة الندامة لاستمرار التفريط، وكذلك الانتكاس بعد الطاعة، وما نشهده بعد رمضان من نكوص عن المساجد وانحسار روحانية العبادة من الواقع ليدعونا الى استشعار هذا الخطر والدعوة الجادة إلى التماس شهر رمضان كموسم تصحيح المسار والاستمرار عليه والحذر من النكوص ولذا كان هذا التحقيق.
الغنم والغرم
في البداية تحدث الشيخ جابر بن محمد الحكمي مدير عام فرع الرئاسة بمنطقة مكة المكرمة قائلاً: ان التاجر اذا دخل عليه موسم من مواسم التجارة وتاجر فيه وباع أو اشترى طلباً للربح فانه بعد انتهاء هذا الموسم وتصفية معاملته فيه ينظر مبلغ ربحه وما حصل عليه من مكاسب، ينظر هل ربح أو خسر هل غنم أم غرم؟ وهذا الاهتمام البالغ في الدنيا وتجارتها وعرضها الزائل يعتبر عند كثير من الناس حدقاً ورشداً، ونحن قد مر بنا موسم عظيم من مواسم تجارة الآخرة الباقية تجارة تنجي من عذاب أليم تجارة لن تبور، لقد مر بنا شهر رمضان المبارك تربح فيه السنة ثواب الفريضة وتربح فيه الفريضة ثواب سبعين فريضة، ربح العمل فيه في ليلة واحدة ثواب العمل في ألف شهر وتلك الليلة هي ليلة القدر التي يفرق فيها كل أمر حكيم، يفوز فيه أهل الاستقامة والصلاح برحمة الله سبحانه وتعالى يحصل فيه المذنبون على مغفرة الله ويعتق فيه المستحقون لدخول النار من أصحاب الكبائر الموبقة يعتقون فيه من النار اذا تابوا إلى ربهم ورجعوا اليه بتوبة صادقة وأحسنوا العمل، من صام أيامه وقام لياليه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ويواصل فضيلته قائلاً: ولقد مر بنا هذا الشهر الكريم المبارك بخيراته وعشنا أيامه ولياليه فيا ليت شعري من المقبول فيه فنهنئه ونبارك له ومن المردود فيه فنعزيه وندعو له، وان من الواجب علينا أن نحاسب أنفسنا ماذا ربحنا فيه وماذا استفدنا منه وما أثره على نفوسنا وما مدى تأثيره على سلوكنا هل ربحنا فيه أم خسرنا هل تقبل الله أعمالنا فيه أم ردها علينا. ولقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين حينما ينتهي رمضان يصيبهم الهم والحزن الشديد هل تقبل منهم أو لم يتقبل فكانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان ويدعونه ستة أخرى أن يبلغهم رمضان الذي يليه.وكانوا كما وصفهم ربهم سبحانه وتعالى بقوله: «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون».. كانوا يخافون أن ترد عليهم حسناتهم وترد عليهم أعمالهم وكان خوفهم من ذلك أشد من خوف المذنبين أن يعذبهم الله بذنوبهم.
بعد ذلك يشير فضيلته إلى أن للقبول علامات وللخسارة والرد علامات واضحة يعرفها كل انسان من نفسه. فمن كانت حاله في الخير والاستقامة بعد رمضان أحسن من حاله قبله ومن حسن سلوكه ورغبته في الطاعة وابتعاده عن المعصية ونفوره منه فإن هذا دليل على قبول أعماله الصالحة في رمضان ودليل على ربح تجارته، ومن كان بعد رمضان كحاله قبله أو أسوأ منه مقيم على المعاصي بعيد عن الطاعات يرتكب ما حرم الله ويترك ما أوجب الله يترك الصلاة مع جماعة المسلمين يسمع النداء في كل يوم خمس مرات فلا يجيب ويعصي فلا يتوب ولا يدخل مع المسلمين إلى بيوت الله ولا يتلو كتاب الله ولا يتأثر بالوعد والوعيد ولا يخاف من التهديد، سماعه لما حرم الله ونطقه زوراً أو بهتاناً وما له من الرشوة والربا وبيع السلع المحرمة وتجارته فيما يضر المسلمين من خمر ومخدرات ونحوها مما يضر ولا ينفع ويهدم ولا يبني فماذا استفاد مثل هذا من رمضان ومن مواسم المغفرة والرضوان. مضيفاً الشيخ الحكمي ان رمضان وإن كان قد انتهى وطويت صفحته على ما فيها من الخير أو الشر فإن طاعة الله باقية لا تنتهي الا بالموت فيا أخي المسلم اذا كان قد فاتك العمل الصالح في رمضان وأمضيته في معصية وبعد عن الله فاعلم أن باب التوبة مفتوح لا يقفل حتى تغرغر وتبلغ روحك الحلقوم «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» فباب التوبة مفتوح والتائب من الذنب كمن لا ذنب له قال تعالى: «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما» فتب إلى ربك وارجع الى رشدك وأحسن العمل في مستقبل حياتك وابك على ماضيك الذي اضعته فيما يغضب الله عز وجل ويبعدك عنه فانها لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل فيه فلا تمض شبابك وحياتك في معاصي الله، ويا من أحسنت في شهر رمضان وحافظت على الصلوات مع جماعة المسلمين وصمت النهار وقمت الليل أعلم أن ربك في رمضان هو ربك في بقية أيام السنة والشهور فحذار حذار أن تعصيه بعد رمضان فبعض الناس اذا جاء رمضان اجتهد في الطاعات وهجر المعاصي فاذا انقضى شهر رمضان رجع الى ما كان عليه قبله وترك الواجبات وارتكب المنهيات.
يا من عرفت الله في رمضان؟
بعد ذلك وجه فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو اللجنة الدائمة للإفتاء نصيحته بقوله: يا من عرفت في رمضان أن لك رباً كيف نسيته بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان أن الله أوجب عليك الصلوات الخمس في المساجد كيف جهلت ذلك أو تجاهلته بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان ان الله حرم عليك المعاصي كيف نسيت ذلك بعد رمضان؟ يا من عرفت في رمضان أن أمامك جنة وناراً وثواباً وعقاباً كيف نسيت ذلك بعد رمضان؟ يا من كنتم تملؤون المساجد في رمضان وتتلون كتاب الله فيه كيف هجرتم المساجد والقرآن بعد رمضان؟ نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة، ومن الضلالة بعد الهدى.
ويواصل فضيلته فيقول: لقد كانت المساجد في رمضان تغص بالمصلين في الأوقات الخمسة، برجال لم ينزلوا من السماء ولم يقدموا من سفر، وانما يسكنون بجوار المساجد طوال السنة ويملؤون البيوت، لكنهم لا يعرفون المساجد في غير رمضان، ولا يخافون الله في غير رمضان، وأعجب من ذلك أن هؤلاء لهم آباء واخوان يحافظون على الصلاة طول السنة لكنهم لا ينكرون عليهم بل يسكنون معهم وينبسطون بصحبتهم ويؤاكلونهم ويجالسونهم فإذا حضرت الصلاة قاموا إليها وتركوهم وأغلقوا عليهم البيوت مع النساء والأطفال دون خوف من الله. متسائلاً فضيلته: ألم تنزل اللعنة والغضب على بني إسرائيل على مثل هذا الذي تصنعونه؟ وأنتم تقرؤون هذا في كتاب الله تعالى؟ «لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون» وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن أحدهم كان يرى الآخر على معصية الله فينهاه عن ذلك، ثم يراه مرة أخرى فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسي بن مريم ثم قال صلى الله عليه وسلم «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرنه على الحق قصراً» وفي رواية: «أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم» مضيفاً فضيلته انني أعتقد أن واحداً من هؤلاء الذين يسكتون عن أبنائهم ومن في بيوتهم اذا تركوا الصلاة لو نقصه ابنه أو أخوه شيئاً من ماله لم يسكت عنه، ولم يتركه في بيته بل تظهر شهامته ورجولته وحزمه وغيرته على الدنيا، وأما الدين فلا يهمه أمره، فاتقوا الله واخشوا من العقوبة العاجلة والآجلة فها هي الحروب الطاحنة تحيط بكم من جميع الجوانب، دمرت مدن بأكملها وهلك الألوف من الناس وشرد الملايين من ديارهم، وأنتم تنعمون بالأمن وترفلون في الغنى والثروة، وتتمتعون بأحسن المآكل والمشتهيات لكنكم لم تشكروا نعمة الله فاحذروا من عقوبته فقد قال سبحانه: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد» وقال تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم».
الاستعداد ليوم المعاد
فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عايد العايد المحاضر في جامعة الإمام في ختام هذا الموضوع بين مشروعية محاسبة النفس في كل وقت وحين مستدلاً بقول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» فيأمر الله عز وجل عباده أن ينظروا ما قدموا ليوم القيامة، وتساءل هل يصلح ما قدمته أيها المسلم لأن تلاقي الله به أو لا يصلح، ولا شك أنك اذا نظرت هذا النظر وتفكرت هذا التفكر قادك ذلك إلى الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيك من عذاب الله ويبيض وجهك عند الله، وأيضاً ما يدل على محاسبة النفس ما ورد عند أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه أي حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله»، وعن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة فقلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول؟ قلت نافق حنظلة نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى :أن رأي عين فاذا خرجنا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، قال أبو بكر فوالله أنا لنلقى مثل هذا يعني ان كان هذا نفاقاً فإنا مثلك يقول فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله نافق حنظلة، قال صلى الله عليه وسلم وما ذاك، قال: قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كان رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، قال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، قالها ثلاث مرات فهنا حنظلة حاسب نفسه على ما ظن أنه تقصير ويستطرد الشيخ العايد فيقول: ويدل على مشروعية المحاسبة ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند أحمد قال رضي الله عنه «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم تزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية».
لماذا لا نحاسب أنفسنا ولماذا نقصر في محاسبة أنفسنا؟ سؤال يعرضه فضيلة الشيخ العايد ويجيب عليه بذكر بعض العوائق التي تمنع من المحاسبة أو تقلل منها والتي من أهمها:
أولاً: المعاصي سواء كان ذلك بفعل الكبائر أو بالاصرار على الصغائر، فهذه المعاصي تسبب الران على القلب، فإذا عمل الإنسان معصية نكتت في قلبه نكتة فان تاب صقل كما في الحديث والا بقيت هذه النكتة حتى يتراكم هذا الران على قلب المسلم وبقدر تراكم هذا الران تقل محاسبته لنفسه حتى يصبح القلب لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً.
ثانياً: التوسع في المباحات، لأن هذا التوسع يرغبه في الدنيا ويقلل تفكيره في الآخرة، واذا لم ينظر إلى آخرته أو قل نظره الى آخرة قلت محاسبته لنفسه.
ثالثاً: عدم استشعار عظمة الله وما يجب له من العبودية والخضوع والذل، فلو استشعرنا ذلك وعرفنا لله حقه لأكثرنا من محاسبتنا لأنفسنا، ولقارنا بين نعم الله علينا وبين معاصينا ولقارنا بين حق الله علينا وبين ما قدمناه لآخرتنا.
رابعاً: تزكية النفس وحسن الظن بها، لأن حسن الظن بها يمنع من التعرف على عيوبها واذا لم تكتشف الداء كيف سنعالج.
|
|
|
|
|