| الثقافية
الثقافة والإبداع وبما هما كذلك حقيقة وليسا مجرد تمظهر سطحي أو تزوير أو استخفاف لم يكونا ولن يصيرا أبداً مجرد تكرار لبعض ما أكلت عليه الذاكرة وشربت من «محفوظات» حتى أصابتها التخمة وأوصلتها للشعور الذي لا يُقاوم بالرغبة في الغثيان وأمام الناس.
الثقافة الحقيقية والإبداع الحقيقي يتفاعلان في الذات الإنسانية فيما تواصل تحولاتها وتطوراتها وتجددها الواعي عبر رؤى ومواقف جديدة، وفيما تُقيم النفس الإنسانية معهما جدلاً متواصلاً يمارس المساءلة والاختيار والتنقيح والفرز والطرد، وفي تنام هرموني متكامل لا يقف عند الآراء بقدر ما يقف عند الرؤى، ولا عند المضامين بمعزل عن الأشكال ولا عند الأشكال بمعزل عن المضامين ولا عندهما بمعزل عن التقنيات وليس بمعزل عن البنية والوحدة العضوية أو عند المؤثرات دون النتائج أو الأهداف دون الوسائل.
هذا الجدل الايجابي لا يكتفي لكي يقتنع بثقافة ما، بمجرد ان أصحابها يملكون قدراً لا بأس به من وسائل التعبير والمظاهر التي تنم عن الطيبة وحسن النية، بل ينظر إليها أول ما ينظر إن كانت ترى إلى الحياة والإنسان كأجزاء وعناصر منفصلة أو كوحدة واحدة، وفيما إذا كانت لا تستطيع التمييز أو تخلط بين الواقع والحلم أو بين الفكر والخيال أو بين الممكن والمستحيل جاهلة أو عامدة مزوِّرة أو العكس.
هذا الجدل، يُبدع ويبتكر ويجدد، وعبر رؤى تمارس تطورها الساعي أبداً للتغيير والتطوير.
هذه الرؤى وضمن سعيها الجاد للخلاص، دون استسلام للهواجس والانتظار اليائس لما لا يُنتظر تبحث عن أشياء غير موجودة في السائد والمألوف والشائع، فيما تمارس إبداع الواقع لا تكراره فقط، وفيما تحتفظ بتقدمها الدائم على أعرافها وأنساقها وأنماطها السابقة، وهي تبحث وتفكر في كل الاتجاهات وبصوت عال، وفيما يُشكل الرفض والتحديات التي تواجهها أفضل حافز لها على المضي قُدماً نحو مواقفها الإنسانية الجديدة والنبيلة، منطلقة من وحدة الثقافة وليس من وحدة الفئة في الوقت نفسه الذي تحرص فيه على ان تكون مع الإنسان «في كل زمان ومكان» ولكن غير مبالية إن كان خطابها يصدمه أو يرهقه إذا كانت الصدمة أو الارهاق تمارس ايقاظه وتحريكه وبث روح التساؤل فيه وتدفعه ليجدد وعيه وذائقته، وفي براءة ومكاشفة وتلقائية ليست سطحية ولا تصل إلى الطفولة الثقافية وممارساتها الملتبسة عند البعض بالعبث والتهور أو الانطلاق غير الواعي والمحسوب الخطى ومن أرضية صلبة قادرة على الاستمرار، وبأسلوب لا يُشكل تعارضاً مع الرؤية والموقف، وهي تُجسد الإنسان الذي تعايشه ضمن زمان ومكان وظروف مُشاهدة وملموسة، وفيما تنقل خطاها على ايقاع وجوده وما يحيط بوجوده من جدليات وعلى ايقاع حاجاته وذائقته وهي تنطلق منه إليه، وضمن تراسل شامل بينهما، وعبر عمق واتساع موضوعي وادراك واضح لحركة الحياة.
هذه الرؤى وما ينجم عنها من مواقف وما يجسدها من تعبير، يجب ان تملك قدرة جيدة لتحقيق نسبة مُرضية من التوازن بين الإنسان والثقافة وعناصر الوجود المختلفة، ودون ان تكون مبنية على الأكاذيب أو المبالغة أو الأوهام، ودون ان تخلط بين الأشياء وأسبابها وكيفياتها وآثارها، وهي تهدف إلى الجديد فقط، مدركة دورها المتجدد في قيادة التطورات الثقافية والإبداعية الإنسانية والتنويرية الممكنة التحقيق.
من هنا تتضح أهمية الرؤية في الثقافة ودورها في امتلاك ناصية الابتكار وتجسيده في الإنتاج الجديد وتعميق الوعي به والاحساس بقيمته والحاجة إليه، وهذه من النتائج التي لا يمكن ان تُحققها الثقافة القائمة على الحفظ والتكرار فقط.ثقافة التكرار تنطلق من معلومات أو أحداث أو أفكار معروفة، وتنتهي إلى نتائج شبه معروفة ومتوقعة ولا تُقدم جديداً، بقدر ما تساهم في اهدار الوقت والطاقات والإمكانيات.
وثقافة الرؤية تنطلق من معلومات أو أحداث أو أفكار أو مواد خام موجودة، معروفة أو مكتشفة، وتنتهي إلى نتائج غير معروفة وغير متوقعة ومفاجئة أيضاً وتُّمهّد لنتائج مستقبلية أخرى.
التكرار تقوده الاستعادة والعودة الدائمة إلى النقطة التي انطلق منها، ولا يمكن ان يُحقق سبقاً أو إضافة، وبخاصة إذا كانت وسائله أيضاً مكررة ومعروفة، وبحيث يصل في أحيان كثيرة إلى وضع معرفي تصبح فيه الوسائل قواعد وربما أكثر حصانة من الأسس التي تم الانطلاق منها وإلى درجة أن يصبح ابداع وسائل جديدة وطرق غير معهودة خيانة لتلك الأسس، وفيما تكتسب الوسائل والأساليب والمظاهر المصاحبة لها بهذه الطريقة وبفعل تكريسها قوة وحصانة قد تتجاوز قوة وحصانة الأسس ولا تتمتع بها الأسس نفسها،
وفيما يتخلل ذلك خلط بين المضامين والأشكال والتقنيات وتراسل عشوائي بينها وخللٌ واضح بين الوسائل والغايات، في الوقت الذي لا يمكن ان يحدث فيه مثل هذا الخلل وما يترتب عليه من نتائج سلبية مع الثقافة التي تعتمد الرؤى المتجددة ذات الفضاء المفتوح أبداً للتطور والتحول في المثاقفة والإبداع وما يستلزم ذلك من مضامين وأشكال وتقنيات متجددة وغير متناقضة.
|
|
|
|
|