| الثقافية
نلهو بالقبور الفارغة.. تلك التي تنتظر أهلها. أبي يعد حفر الفناء بصبر ودربه اذ تتمير (مقبرة السمراء) بصلابة أرضها، وتماسك حجارتها، ليرى أن حفر قبر هنا يعادل حفر قبرين أو ثلاثة في أي مكان آخر لكنه يجتهد ما وسعه الاصرار على انتزاع لقمتنا من بين العرق وغبار الحفر.
يرقد أخي الصغير أحيانا في قبر ما لفرط إنهاك يتلبسه، ونبقى أنا وأخي الأكبر نسهم مع أبينا في إعداد واجب الموتى الأخير.. دفن أبي وعلى مرأى منا كهولاً ويافعين، شيوخاً كباراً، استطاع أبي ان يطمر قاماتهم باللبن الطيني، ويهيل على هاماتهم التراب، بل انه وارى بأخاديد الأرض نساء وأطفالا غدر الموت بهم جميعاً.
يأتينا بين فينة وأخرى رجل لا نعرفه.. يبتسم له أبي بمرارة، ويغشاه حزن عظيم، تكف أمي عن هذرها.. نسألها من هذا؟! فتجيب: عمنا (أبو موسى)، لا يلبث في إطلالته إلا ويختفي، ليعاود أبي سيرته الأولى يحفر مزيداً من القبور التي يهيئها لقاطنين محمولين على أعواد النعوش خفافاً إلا من أعمالهم.
يشير أبي إلى قبر فارغ قائلا: هذا قبر أبي موسى.. لا أحد يقترب منه، ليظل جرح الأرض فاغراً فاه ولأعوام عديدة. يطل الرجل علينا ونحن نلعب ونعبث بتراب القبور الطرية. ينهرنا ألا نلعب بقبره لنهرب من المكان.. دفن أبي الكثير من الموتى حول الحفرة الفارغة، ومات أبي وألقيناه في رمس ناء، وظل أبو موسى يتردد علينا ويحذرنا أن نقترب من قبره الموعود.. لم يمت ذلك الرجل الذي ما فتىء يفاجئنا بمجيئه بين حين وآخر. حاصرنا أمنا بالأسئلة المحيّرة والمشككة بهذا الزائر الغريب حتى اعترفت لنا بأنه الفقر.. هذا الذي يكنّى في هذه البلاد بأبي موسى، أضافت وهي تكاد تفقد رباطة جأشها المعهود: دعوا قبر عمكم.. دعوا قبره .. أحذركم.. دعوه.
|
|
|
|
|