| الثقافية
= 3 =
إذا كان البلاغيون قد قالوا إن المجاز أن تقع المفردة في حال حيود عمّا استعملت له في أصل الوضع، فإن هذا في واقع الأمر لا يستغرق الفكرة التي نشير اليها التي تقول ان فكرة المجاز هي أن المفردة في حال توتر معرفي يؤول إلى تحول المعنى، وإذن لا يكون المجاز بتبع ذلك الا توتُّراً معرفياً لوحدة الإمكان اللغوي التي هي المفردة في شرط التركيب اللغوي الذي يسمِّيه الجرجاني «نَظْماً».. غير أنّه ما وجه الفرق بين تعريف البلاغيين الذي أشرنا اليه وبين فكرة تحوّل المعنى هذه؟؟ هذا سؤال ملح وهو في واقع الأمر سؤال جمالي على غاية من الأهميّة..، دعونا ننظر.. إن كون المفردة تقع في استعمال غير ما وضعت له في أصل الوضع يعني تحوُّلاً أيضاً عن المعنى الإجرائي أو المتواضع عليه.. فأين هو الفرق إذن؟؟ بين أن نقول: المجاز: استعمال المفردة في غير ماوضعت له في أصل الوضع، أو أن تقع المفردة في حال توتُّر معرفي يتحوّل معه المعنى تحوُّلا هو حال انعقاد الإمكانين العقليين اللغوي والمجازي؟؟ الفرق أن فكرة البلاغيين تبنى على فكرة أخرى هي فكرة التناسب أو القرينة الظاهرة بين المعنى في أصل الوضع وما تجوِّز بالمفردة إليه من معنى.. في حين أن التعريف في حال ما نراه لا يعطي هذه المسألة اعتباراً كبيراً لأن فكرة التناسب هذه تغرق في فكرة أوسع هي التي نُسميها فكرة الخلط المعرفي..، وكنا أشرنا من قبل إلى أن هذا الذي نسمِّيه تحولاً في المعنى ليس فقداً في نظام اللغة بقدر ما هو كشف لنظام خفي مندغم في نظام ظاهر..، وإذن هذا النظام الخفي هو ذاته نظام التناسب الذي يسوِّغ فكرة المجاز أو فكرة الخلط المعرفي، بمعنى أن المفردة حال وقوعها في بؤرة توتُّر معرفيَّة لن تنفك عن قرينة تناسُب بينها وبين متعلقاتها من مفردات التركيب اللغوي أو السياق الجمالي الذي هي فيه..، وقد عَرضت في الجزء السابق لهذه المسألة في استقراء قرينة التناسب هذه بين مفردتين نظنهما في حال تفاوت باعتبار المعنى في أصل الوضع. هاتان المفردتان هما «الفجر» و«السِّربال» وألمحت إلى كون قرينة التناسب هذه تنفي توهُّم العبثية عن نظام اللغة الجمالي، لأننا كنا نقول إنَّ التركيب اللغوي أو النَّظْم أو النَّسْج حين يصدر عن ملكة مجازيَّة فإنه لابد أن ينطوي على شرط النظام الخفي الذي هو نظام التناسب كما أشرت قبل قليل في نفس سياق هذه الكتابة..،
عن بؤرة التوتُّر المعرفية في المجزوء «عن الفجر سرباله».، قلنا إن هنا ارتباطا بين فكرة التغطية ومفردة السربال..، سربال تعطي معنى السترأو التغطية مع أخذنا في الاعتبار فكرة الحيِّز المادي.. أي أنه لابد أن يكون هناك ما نستره أو نغطية.. وفي المقابل قلنا إن الفجر يعطي معنى التغطية أو الشمول أو الغَمْر..، هنا تغطية وإزاحة لمعنى الإظلام أو لحقيقة الإظلام على وجه التحديد، وينبغي أن نأخذ في اعتبارنا الحيِّز المادي باعتبار الصِّلة بين ذلك الحيِّز وأثر المعنى.، ربما أنا بحاجة إلى إيضاح هذه النقطة..، الفجر يعطي معنى الانبلاج أو الإنارة.، ذلك معنى أو أثر.، والإظلام على النقيض يعطي معنى الحجب أو العتمة وذلك معنى أو أثر..، الآن الصلة بين الحيز المادي وأثر المعنى، أنَّ معنى الانبلاج يؤول إلى الكشف لما نسميه حَيِّزاً مادياً وعلى نقيض ذلك معنى الإظلام، إنه يؤول إلى الحجب أو التغطية لما نسميه حيزاً مادياً.. فكرة التوتر المعرفي ظاهرة الآن..، سربال وحيز مادي بينهما علاقة تغطية مباشرة.. فجر وحيّز مادي بينهما علاقة تغطية غير مباشرة..، هذه المسألة ليست شائكة لأنها هي فكرة النظام الخفي المندغم في النظام الظاهر.، هذه هي عينها فكرة التناسب.، إنما آلتها المعرفيَّة ما كنا نسمِّيه من قبل فقه اللغة الجمالي..، أردت أن أركِّز على هذه النقطة للإيضاح فقط..، وقد استغرقنا كما تلاحظون ثلاثة أجزاء في الوقوف عند مطلع النص أو البيت الأول فيه وما كنت أرجو أن يصل الأمر إلى هذا..، إنما سأتجاوز ذلك الآن.، لكن هل في وسع الذي يقرأ هذه التحولات أن ينظر في بؤرة التوتر الثانية.. «وتجرح، يا شعر في الفجر ماء وزهراً» لينظر في فكرة التناسب أو القرينة الخفيَّة..،؟؟ أظنه ممكناً.، على أنهما بؤرتا توتر معرفيتان اثنتان «وتجرح، يا شعر» و«في الفجر ماء وزهرا»..،إنني أعني الثانية على وجه التحديد أما الأولى فسأتحدث عنها عند الوقوف على صوت النص كما أسلفت..،
دعونا نتجاوز هذا الآن..، ينبغي أن نفعل ذلك..، الوحدة البلاغيَّة الثانية في النص = سأصرف هذه التسمية إلى كل بيت في القصيدة = كل بيت هو في حقيقة الأمر وحدة بلاغيَّة..، الوحدة البلاغية الثانية تقول:
ليلُ ها ترفل الأنداءُ في غيِّها
وهذي السواحرُ ترفل في التيه سحراً فسحرا
هناك ما يمكن أن أسمِّيه مساراً جماليّاً..، هذا المسار الجمالي يعني تداعي اللغة في تناظرات جماليّة مثيرة للدهشة وفي تناسبات أو قرائن جماليّة أكثر إثارة، ونحن نلاحظ الآن قفزاً إلى فكرة التناظر هذه من «الفجر» أو فكرة الانبلاج أو غمر الظلام إلى النَّقيض.. «الليل» أو فكرة التعتيم أو غمر الانبلاج.، فكرة التناظر هذه فكرة جوهرية في مفهوم ما نسمّيه مساراً جمالياً.،
وللحديث صلة إن شاء الله.
|
|
|
|
|