| مقـالات
قبل عشرين عاماً كنا عندما نتحدث عن وسائل الإعلام نقصد الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون، أما اليوم وبفضل الثورة الهائلة في تكنولوجيا الاتصال والحاسبات وشبكات المعلومات، اتسع نطاق مفهوم وسائل الإعلام، وأصبح هناك ما يعرف بوسائل الإعلام الجديدة والتي تعتمد على الانترنت والتداخل والتكامل بين شبكات المعلومات والحاسبات والبث الفضائي التلفزيوني، وظهرت كتابات عديدة لخبراء وباحثين في مجال الإعلام والاجتماع والثقافة تتحدث عن الصحافة والإذاعة والتلفاز باعتبارها موضة قديمة!! فهي وسائل إعلام قديمة وليس لها مستقبل إذا ما قورنت بوسائل الإعلام الجديدة التي تتيح المجال لعالم جديد وحياة من نوع فريد لم تعرفه البشرية، تنمحي فيه المسافات، ويقل فيه تأثير الزمن والمال والقوة السياسية.. وتزل فيه الفروق بين امكانيات وقدرات المرسل والمستقبل وتتحقق فيه درجة غير مسبوقة من الحرية والمشاركة الشعبية، فهل يمكن أن يتحقق ذلك؟ وهل صحيح أن على البشرية التخلي عن الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفاز؟
قبل الاجابة تجدر الاشارة وباختصار شديد إلى الأفكار العريضة التي ينطلق منها أنصار وسائل الإعلام الجديدة أو ما يعرف أحياناً بوسائل إعلام القرن الواحد والعشرين.
الإعلام الجديد يقوم على التكامل والتداخل الوظيفي، فهو يجمع كل مزايا وسائل الإعلام التقليدي ويزيد عليها مزايا وظائف جديدة أهمها التفاعلية المباشرة، وازالة الفروق بين المرسل والمستقبل، فتبادل المعلومات والأفكار سيتم في اتجاهين بصورة سريعة وفورية، وسيكون بمقدور أفراد الجمهور استقبال وارسال الرسائل في أي وقت، وسيتمكنون أيضاً من مخاطبة بعضهم البعض بعيداً عن مصدر الفكرة أو المعلومة، أي أن سلطة المصدر والوسيلة الإعلامية ستتقلص، وقد يوجه شخص أو وسيلة ما رسالة إعلامية لجمهور محدد، إلا أن التفاعل حول هذه الرسالة قد يختلف تماماً عن أهداف صاحب الرسالة الأصلي، فالرسالة هنا تتحول إلى نص يتفاعل حوله كل أفراد الجمهور، أو بالتحديد الأفراد الذين لديهم رغبة وقدرة في التفاعل حول هذه الرسالة النص. ولا شك أن هذا الوضع يخلق أشكالاً جديدة للتفاعل الاجتماعي وأساليب جديدة للربط أو حتى للتلاعب بالوقت والمساحة، لكنها في المجمل تهز في فاعلية وسيطرة الجهات الرسمية على الإعلام.
وسيدعم الإعلام الجديد من سرعة الاتصالات، ويسمح بحجم هائل ومتنوع من المعلومات والمضامين المعرفية والترفيهية، كما يوفر الإعلام الجديد عدداً لا نهائي من قنوات الاتصال المترابطة فيما بينها، والتي ستقلص تماماً من قيود الجغرافيا والحدود السياسية، بالتالي ستضاعف أمام الجمهور فرص الاختيار الحر بين قنوات اتصالية عديدة، وبين عدد هائل من المضامين الإعلامية.
حتمية تكنولوجية
ولعل أهم مميزات الإعلام الجديد أنه رخيص جداً، ويتطور بفعل الثورات المتلاحقة في تكنولوجيا الاتصال والتي تؤدي إلى خفض متوالي في أسعار الإعلام الجديد، وكلفة استخدامه، من هنا يتحدث أنصار الإعلام الجديد عن الحتمية التكنولوجية لانتشار الإعلام الجديد، ويسخرون من الأفكار القائلة بأن الإعلام الجديد يحتاج إلى مستوى معين من التعليم والدخل الاقتصادي، ويؤكدون أن الوقت كفيل بجعل الإعلام الجديد في متناول الجميع، تماماً كما كان الحال عند بداية ظهور التلفاز، إذ كان مرتفع الثمن بالنسبة لدخل غالبية الأمريكيين ثم سرعان ما أصبح متاحاً للجميع، ويتابع أنصار الإعلام الجديد أن اكتساب أو تعلم مهارات استخدام الإعلام الجديد مثل البحث عن المعلومات عبر شبكة الانترنت والتفاعل مع الآخرين عبر الشبكة أو حتى انشاء موقع خاص.. كل هذه المهارات هي أمور بسيطة وستدمج مع الأيام ضمن المقررات الأساسية للتعليم.
ومع توقع انتشار وهيمنة الإعلام الجديد ستتقلص فرص ظهور الشركات الإعلامية العملاقة التي تفرض قيوداً على حرية الرأي والتعبير، كما ستقل هيمنة المعلنين، وسيتفتح المجال أمام كل المواطنين للمشاركة في انتاج وتوزيع الموارد الإعلامية، وسيصبح المتلقي الفرد عماد وهدف العمليات الاتصالية، وعبر تفعيل مشاركة الأفراد في الاتصال سيبدأ عصر جديد من المشاركة الشعبية.
والمتأمل لأطروحات أنصار الإعلام الجديدة يجد أن أغلبها مجرد رهانات مستقبلية ترتبط بالتكنولوجيا وظروف اجتماعية واقتصادية معقدة قد تفاجئ الجميع بأحداث وسيناريوهات غير متوقعة، خاصة وأن وسائل الإعلام الجديدة تقدم فرصاً ومزايا اتصالية هائلة، لكن في المقابل هناك دوافع نفسية وحاجات اجتماعية وعوامل اقتصادية واجتماعية قد تتعاغرض مع ما تقدمه وسائل الإعلام الجديدة، أو تضع قيوداً تحد من انتشارها.
ولتوضيح ذلك أشير إلى تعثر اصدارات الصحف من خلال شبكة الانترنت، بل وفشل بيع مجلات أسبوعية على أسطوانة الليزر مثل مجلة نيوزويك NEWSWEEK لأن قراءة هذه الاصدارات على شبكة الانترنت لا يشبع عادة القراءة، كذلك فإن الحديث المثالي لأنصار الإعلام الجديد عن حرية نشر وتداول المعلومات عبر و سائل الإعلام الجديد من دون تدخل أو رقابة يعتبر نوعاً من التمنيات الطيبة، فقد أثبت تطور مواقع الانترنت أن الشركات الإعلامية الأمريكية العملاقة قد سارعت بتأسيس مواقع لها على شبكة الانترنت، وتحظى مواقع هذه الشركات بنصيب الأسد بين مستخدمي الشبكة، ففي عام 1999 كانت مواقع عمالقة الإعلام التقليدي مثل ديزني، سي.ان.ان. وتايم وارز، سوني. وسي. بي. اس. وأم. تي. في، من بين أكبر 50 موقعا على شبكة الانترنت، وهناك دلائل قوية على ازدياد حضور عمالقة الإعلام التقليدي على شبكة الانترنت، بما قد يشير إلى أن الإعلام الجديد قد يقع في المستقبل تحت سيطرة المنتجين القدامى المعروفين باحتكارهم لساحة الإعلام والدعاية والترفيه.
ان سيطرة الشركات الإعلامية العملاقة وكذلك وكالات الإعلان الدولية على أهم مواقع شبكة الانترنت ووسائل الإعلام الجديدة يثير مفارقة غريبة، فرغم سهولة تأسيس المنتجين والمعلنين لمواقع على شبكة الانترنت، إلا أنهم سرعان ما يشعرون بالعجز والفشل لأنهم لا يستطيعون الوصول للجمهور، أو يصلون في العادة إلى قطاع محدود من الجمهور، من ناحية أخرى فإن قوانين الاحتكار لا تسري على مواقع الانترنت أو شركات الإعلام الجديد ورموزه والتي لا يوجد لبعضها وجود مادي ويعتمد على عالم رقمي وواقع افتراضي.
وأعتقد أن حلم حرية الإعلام الجديد قد يتحطم على صخرة أهداف وأطماع الشركات الإعلامية العملاقة التي ترغب في الاستفادة من فرص وامكانيات الإعلام الجديد من جهة، وعلى عدم وجود حماية قانونية ضد مخاطر الاحتكار من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة فإن عادات وتقاليد الناس تدعم من غير وعي أهداف واطماع الشركات الإعلامية العملاقة، فالجمهور يتبع مواقع هذه الشركات وذلك بحكم التعود والمعرفة السابقة بأنشطة هذه الشركات وجودة خدماتها.
في هذا الاطار كشفت بحوث استخدامات الجمهور لشبكة الانترنت أن أغلبية المستخدمين يبحثون عن التسلية وتمضية وقت الفراغ، بينما أغلبية المواقع على الشبكة تقدم المعلومات وأسواق المال والتجارة والألعاب الرياضية وأحوال المناخ، ويدل ذلك على أهمية تطوير وسائل الإعلام الجديدة لتتماشى مع احتياجات ورغبات الجمهور الذي يستخدم وسائل الإعلام الجديدة بنفس الطريقة التي تعود بها استخدام وسائل الإعلام التقليدية، فالجمهور بصفة عامة يستخدم الصحافة أو الإذاعة أو التلفزيون من أجل التسلية.
نتائج البحوث السابقة تؤكد حقيقة أن الإعلام الجديد سيظل محاصراً بعادات استخدام الجمهور لوسائل الإعلام، كما سيبقى محاصراً بأطماع وأهداف الشركات الإعلامية العملاقة اضافة إلى مصالح الدول الكبرى واعتبارات أمنها القومي. في الوقت نفسه لن تكون تكنولوجيا وسائل الإعلام الجديدة، لن تكون المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي، وإنما هي عنصر ضمن عناصر أخرى اجتماعية وثقافية، وبالتالي من الأفضل النظر إلى مستقبل الإعلام من منظور تطوري، يبتعد عن فكرة الانقلاب المفاجئ أو الثورات الحادة، ويسلم بأن التغيرات في عائدات استخدام وسائل الإعلام تتم ببطء، وعلى مدى أطول بكثير من قفزات تكنولوجيا الاتصال، وبأساليب تكاملية مع وسائل الإعلام التقليدية، بمعنى أن وسائل الإعلام الجديدة لن تلغي أو تحل محل وسائل الإعلام التقليدية من إذاعة وصحافة وتلفزيون، بل أن ثمة تكاملاً وظيفياً سينشأ بينها، ومن المدهش أن هذا التكامل سينمو على أسس تنافسية، تماماً كما حدث في مسار تطور وسائل الإعلام التقليدي، بل وكما نراه حالياً في أرض الواقع بين وسائل الإعلام الجديدة والقديمة.
لقد تطورت الصحافة المطبوعة وتغيرت من ناحيتي الشكل والمضمون حتى تستطيع مواجهة التحديات التي فرضها ظهور الإذاعة المسموعة في مطلع القرن العشرين، وتعايشا معاً، ومع ظهور التلفاز حدث الشيء نفسه، إذ نجحت الصحافة والإذاعة في تطوير أدواتهما على قاعدة التنافس بينهما لمواجهة تحدي ظهور وانتشار التلفزيون وسطوة عالم الصوت و الصورة، وبالتالي فإن وسائل الإعلام التقليدية بما فيها التلفزيون قادرة على الاستجابة للتحديات التي تفرضها وسائل الإعلام الجديدة، والتأقلم معها، وقد بدأت هذه العملية فعلياً وبطريقة غير منظمة، بل أملتها ضرورات البقاء وآليات المنافسة على كسب الجمهور وتحقيق السبق الإعلامي، فالصحافة المكتوبة استخدمت شبكة الانترنت وظهرت الصحافة الالكترونية، وبالمثل أصبحت لمحطات الإذاعة والتلفاز مواقعها المميزة على شبكة الانترنت، وحدث مزج وتعاون غير متوقع بين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الجديدة، فقد استخدمت شبكة الانترنت لتفعيل مساهمات جمهور وسائل الإعلام التقليدية في بعض البرامج والمواد التي تقدم عبر الصحف والاذاعات ومحطات التلفاز، كما استخدمت تكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام الحديثة في التسريع بعمليات تغطية الأحداث أو الترويج لما تقدمه وسائل الإعلام التقليدية.
هكذا ستتطور وسائل الإعلام ليس انطلاقاً من تناقض وصدام بين إعلام جديد وآخر قديم، بل من تكامل متوتر وتطور بطيء بينهما، وقد يفتح هذا التطور التكاملي الطريق أمام تجديد شامل لكل ما عرفته البشرية من وسائل إعلام أو حتى ظهور وسائل إعلام جديدة تماماً عن كل ما نعرفه حتى الآن، لكن سيظل المعيار الرئيس لهذا التطور ليس فقط منجزات تكنولوجيا الاتصال، بل هناك وبالدرجة الأولى البناء الاجتماعي والحاجات والمتطلبات النفسية للجمهور وأهداف ومصالح المتحكمين في صناعة وانتاج الإعلام.
|
|
|
|
|