| الثقافية
* القاهرة مكتب الجزيرة عثمان أنور:
احتفت الأوساط الثقافية بمصر ببلوغ الأديب الكبير نجيب محفوظ عامه التسعين وأضاء المثقفون الشمعة التسعين في حياة الكاتب صاحب نوبل في تجمعاتهم ومنتدياتهم وتبارى الجميع في إظهار وإبراز الجوانب الإبداعية في أدب نجيب محفوظ وأعادوا التأكيد على زيارته كأحد البنائيين العظام للرواية العربية.
ومحفوظ يعد أبرز الأدباء الذين نالوا جهداً وافراً ومساحة كبيرة من الدراسات النقدية سواء العربية أو الأجنبية ويحتل بجسده النحيل مكانة مرموقة لدى المبدعين العرب ولا يكاد جيل أدبي أتى بعده إلا ونهل من إبداعاته واستفاد منها.
وفي أول تصريح لنجيب محفوظ بمناسبة بلوغه التسعين من العمر قال لقد تغير الزمن بشكل أفاد العالم والبشر مهما كان الشر الظاهر المرتبط بأشكال هذا التقدم على مختلف الأصعدة، أما على مستوى الإنسان الفرد فإن الحياة الطويلة تمنحه متعة من نوع خاص.ولعل متعة نجيب محفوظ الحالية هي التأمل والاستغراق فيه وهذا ما ظهر جلياً في أصداء السيرة الذاتية وهي من أواخر كتاباته كما أن الزمن لدى محفوظ قد احتل جانباً كبيراً من رواياته حيث عبّر عن حقب زمنية مختلفة وأجيال متتالية كما في رواية الثلاثية وحديث الصباح والمساء وغيرها،وهو نفسه يعد مثالاً حياً لعدة حقب متتالية فقد ولد عام 1911 وكان آخر العنقود واختاروا له اسم نجيب تيمنا باسم أشهر طبيب ولادة في ذلك العهد والذي ساعد في إخراجه إلى الدنيا وأمه تدعى فاطمة مصطفى إبراهيم، ورغم أن لمحفوظ ستة أشقاء إلا أنه عاش بإحساس الطفل الوحيد.
شبَّ محفوظ وكانت له حياته الخاصة التي تعتمد على التنظيم منذ صغره فهو كما يقول العديد من النقاد نوع من البشر يقدرون على تنظيم علاقاتهم بالعالم من خلال إيقاع خاص ينصتون له بمهارة فريدة، وهذا الإيقاع يستلزم مزيجاً من القدرات الذهنية والخبرات الحسية ويحتاج إلى إرادة تضبط لعبة الاحتياج والمتعة.
وكان نجيب محفوظ يخطط لأن يصبح فيلسوفاً على اعتبار أن مهنة الأدب لم تكن تقابل باحترام كبير في ذاك الوقت وأن الفكر هو صاحب القيمة الأكبر، والأدب كان هامشياً بالنسبة لكتّاب كبار وقتها مثل العقاد وطه حسين، ولكن كان الأدب قدره حين احتل رأسه صراعاً بين الفلسفة والأدب، وقد وصف محفوظ هذا الصراع في أحد حواراته بأنه مؤلم وعنيف، ولكن تم حسم هذا الصراع حينما فشلت بعثته لدراسة الفلسفة خارج مصر، وهكذا لم يصبح نجيب محفوظ فيلسوفا كما كان يخطط والغريب أنه لم يصبح أيضاً موسيقياً كما خطط لنفسه في إحدى مراحل حياته حينما التحق عام 1933م بمعهد الموسيقى العربية وقت أن كان طالباً بالسنة الثالثة في كلية الآداب وهو ما حكاه للناقد رجاء النقاش وذكره في كتابه عن محفوظ. والمدهش أن والده كان يحلم له بوظيفة مرموقة وكيل نيابة أو طبيب لكنه صدمه بدخوله كلية الآداب.
ويؤكد محفوظ نفسه أنه لو وجدت توجيهاً سليماً من أحد لتغيير مسار حياتي، وكان الأدب هو قدره.عرف عن نجيب محفوظ ولعه بالأماكن والأحياء القديمة وكان يشعر أن بينه وبين هذه المناطق والآثارعلاقة غريبة تثير بداخله عواطف حميمة ومشاعر غامضة، ويقول محفوظ إنه لم يكن ممكنا الراحة فيما بعد إلا بالكتابة عن هذه الأماكن.ولم تكن تلك الأماكن القديمة ديكوراً اجتماعياً لرواياته فقط بل كانت الخيط الذي يريد به أن يكتشف أجزاء من نفسه المبعثرة في لحظات انتقال الناس من زمن إلى زمن، وتحول المكان من حال إلى حال.واستمر محفوظ في الكتابة وتواصلت مسيرته الإبداعية المتنوعة والتي شملت كافة المراحل التي مرَّ بها وكما يصنفها النقاد مرحلة الرواية التاريخية ومرحلة الرواية الواقعية ثم الاجتماعية والنفسية ويحصل على جائزة نوبل عام 1988م تتويجاً لمشواره الأدبي الثري.
ثم يتعرض بعد ذلك لطعنة سكين غادرة من يد لا تعي مغزى ومعنى الأدب أو قيمة وأهمية نجيب محفوظ ويترك الكتابة لفترة ثم يعاوده مرة ثانية بعد خمس سنوات ظل خلالها يتدرب على تحريك يده اليمنى نتيجة تأثرها بطعنة السكين، وكانت عودته تجاه الكتابة لها سعادة خاصة لأنه رفض أن تكون الكتابة عبر الإملاء وقد عبر عن ذلك بقوله لو كنت مثل طه حسين قد عودت على الإملاء لأمكنني أن أؤلف الآن دون الحاجة إلى الكتابة لكنني لم أتعودها.
والطريف أن العودة للكتابة لم تكن مجرد استجابة إلى رغبته الداخلية في الكتابة وفقط لكنها أساساً جاءت في مواجهة مأزق نفاد مخزون القصص التي كتبها قبل الحادث، وكانت تنشر تباعاً طوال السنوات الأخيرة في إحدى المجلات الأسبوعية بالقاهرة ويحكي محفوظ.. كانت هذه القصص موضوعة في ملف وكلما طلبت مني سناء البيسي رئيس تحرير نصف الدنيا قصة كنت أفتح الملف وآخذ منه واحدة أو اثنتين فأراجعها وأبعث بها إليها لكني في المرة الأخيرة وجدت الملف فارغاً فأخذت أقلبه وأبحث على الأرض ربما وقعت منه بعض الأوراق دون أن أدري وعندئذ بدأ ينتابني قلق شديد، ماذا سأفعل الآن؟
هل سأتوقف عن النشر نهائيا، لقد كانت هذه المجموعة من القصص تمثل خط الاتصال المتجدد بيني وبين القراء خلال السنوات الأربع الأخيرة منذ توقفت عن الكتابة، وقد تصورتها رصيدا لا يفنى لكن ها هي نفدت فماذا أفعل..!! وعلى هذا عاود محفوظ الكتابة مجدداً.
وقصة عودة محفوظ للكتابة تلخص شخصيت ه، فهو يستطيع الجمع بين رغباته وبين الالتزام والتواصل مع الإيقاع العام من حوله، ويعزف لحنه الداخلي بدون أن يخرج عن النغمة العمومية، له قدرة فائقة على إقامة الحواجز بين عوالمه الروائية المتعددة وإدارته لطريقة حياته بالتنظيم المتقيد الذي يعد كل شخصية من شخصياته الروائية ملفاً مستقلاً قائما بذاته.
مشوار وجوائز
حاز نجيب محفوظ العديد من الجوائز منذ نصوصه الأولى، أولها كانت جائزة قوت القلوب الدمرداشية عام 1940م، ثم تبعتها جائزة وزارة المعارف عام 1947م عن رواية خان الخليلي، ثم جائزة الدولة عام 1975م عن روايته قصر الشوق، ثم جائزة الدولة التقديرية عام 1968م عن الثلاثية، بعد ذلك نال الاعتراف العالمي بأحقيته في أرفع الجوائز في 13 أكتوبر 1988م حين حصوله على جائزة نوبل.
وعلى مدار أعوامه التسعين أقام محفوظ قاعدة رصينة من الإبداع ارتكزت عليها الأجيال التالية حتى الآن فقد استطاع محفوظ أن ينقل الرواية العربية من مرحلة المقامة أو الحدوتة أو الحكاية الرومانسية إلى مرحلة البناء الروائي المحكم متكامل الأركان سواء في مجال الرواية الاجتماعية بدءاً من خان الخليلي عام 1945م مرورا بزقاق المدق والثلاثية حتى قشتمر أو في مجال الرواية الرمزية مرورا بالشحاذ ثم اللص والكلاب وانتهاء بأفراح القبة عام 1981م وفي المرحلة الأخيرة حيث العالم الداخلي للشخصية بكل نوازعها المتناقضة ومحاولاتها الاتحاد بعناصر الكون الأكثر شمولاً وشفافية من الواقع المعيش، والحصيلة أن محفوظ خاض في كتابه كل أنواع الرواية على شمول طرائقها وحقق بشموخه الأدبي ورصانته الإبداعية عبر زمان طويل حضوره المتوهج على الساحة الأدبية وهذا الحضور المتوهج لم يجعله فقط مجرد أديب بل قامة لغوية وإبداعية سامقة تستحق لقب مؤسس الرواية الحديثة الذي خرج من معطفه آلاف المبدعين من الأجيال التي تلت ذلك فصنعوا به ومعه مجد الرواية العربية المعاصرة.
|
|
|
|
|