| الاخيــرة
الإيجاز عند عرب البلاغة سرٌّ من أسرار الإعجَاز البيَاني، ولنا في كتاب اللّه العزيز أسمَى مثال، فكم من آيةٍ كَريمةٍ جَمعَت في كلمات قليلة من صُنوف الحكمة والبيَان ما تنوءُ بحمله أسْفارٌ. وتأمّلوا معي قولَ الله تَعالى:(إنّ اللّه لا يُغيِّر ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفُسهم) «ü» صدق الله العظيم.
ففي هذا النّطق الإلهي حكمةٌ بالغة يَسْتَهدي بها الأفرادُ والجمَاعاتُ وتَستَنيرُ بها الدّول والمجتمعات، ولنا فيها، معْشرَ الإدارييّن، طلاّباً وأساتذةً ومُمَارسين، الأُسوةُ الحسَنَة.. والقُدوة الفاضلة.
**
ومصدرُ النُّبوغ البَلاغي في هذا النصّ وأمثاله ليسَ في غَرابة لفْظه، أو صعوبة تركيبه، فهو يَتنزّه عن ذلك. لكنّ النُّبوغَ فيه ينْبعُ من دَلاَلاتِه الواضحة التي تُنكر التَّأويلَ بغير ما خصَّه به ربُّ العَالمين. ونصٌّ كَهذا يختَصرُ كثيراًَ مَمّا قيلَ وما يُمكن أنْ يُقَالَ من أطنان الكلام عن تغيّر الفرد والجماعة، ممّا تحويه أدبيات التنمية.
**
انتقل من ذلك إلى القول بأنّ الإيجاز البَلاغي فنٌ من فُنون القول غير يسير.. إلاّ لمن يُسِّر له، وليس معنى هذا أن الاقتصادَ في القول أمرٌ مرغوب في كل حال، ولكلّ غرض.. فهناك مواقفُ يكون الإيجازُ فيها معيباً للنصّ، مُفسداً للمعْنى، وهو في مثل هذا الحال ابتسارٌ مخلّ، مثْلمَا أن الإطنابَ في بعض المواقف إسهابٌ مُمِلٌّ!.. لكن المقصود بالإيجاز البلاغي هو في تقديري المتواضع القدرة على التعبير في سطرٍ بما يُغْني عن صَفْحة، وقد تغني صفحة عن فصل، وقد يغني فصل عن كتاب!
**
إنّ المطَالبة بالإيجاز في الكتابة غير المتخصّصة أمرٌ تفرضه حيثيات العصر الذي نعيشه.. فالناس في عصرنا الراهن تتخطّف أبصارَهم وأفئدتَهم أمورٌ أهمُّ لديهم من القراءة.. شَاءُوا ذلك أم أبوه.
ويزيد ذلك حرجَاً أنّ فينا الملولَ من القراءة.. والعازفَ عنها والعاجزَ منها، فإذا أسْهبنا في الكتابة دون مسوّغ تُمْليه ضَرورةُ الموضوع، زدْنا الملولَ ملَلاً، والعازفَ عُزُوفاً.. والعاجزَ عجزاً!
**
ولي في هذا المقام وقفةُ عتاب لإخواننا الكرام.. بعضِ الكتَّاب، والأكاديميين منهم خاصَّة، الذين يَقْرنُونَ جَوْدة الكاتب وما يكتب بإسهابِ المتْن.. واعتبار ذلك مُؤَشِّرَ نَجاح.. يُعانق ذُرَى الإبداع!! حتَّى إن أحَدهم قد لا يتردّد في وصْف أطُروحة علمية لنيل أيّ من إجازتي الماجستير أو الدكتوراه.. ب(الإبداع العلمي) إذا كان عدد صفحاتها في خانة المئات.. بل الآلاف!
وليسَ في هذا القول إسراف ولا غلوّ ولا شطط.. فقد علمت أن طالباً في إحدى كلياتنا النظرية تقدم برسالة للماجستير تجاوزت صفحاتها الثلاثة آلاف صفحة!! ومن يدري، فقد يكون هناك طالب آخر في موقع آخر يجاهد نفسَه الآن ويجهدها ل(تحطيم) هذا الرقم!
تكملة الآية الكريمة (11) من سورة (الرعد)
|
|
|
|
|