| مقـالات
في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية نشبت الحرب الباردة بين العملاقين في ذاك الوقت ما يعرف بالاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، لأسباب تكمن في الصراع على مناطق النفوذ والمناطق الحيوية.
هذه الحرب كانت أشد بأساً وضراوة وقذارة وحقارة وانتهاكاً لحقوق الإنسان من كل ما سبقها من حروب عرفتها البشرية وذلك لأنها لم تمس أثناء نشوبها بالدرجة الأقسى الشعبين المتحاربين، بل تناولت سحق دول العالم الآخر وخاصة العالم الثالث.
وأخذ العملاقان يتسابقان في اقتسام العالم لتشكيل كتل سياسية قوية موالية، غزيرة الثروات والطاقات تكون سنداً لها وقاعدة استراتيجية وسوقاً لصادراتها ومنتجاتها.
إن ما آلت إليه شعوب العالم النامي يتمثل جلياً بأوضاع شعوب القارة الأفريقية وتردي أحوالهم الحياتية والمعاشية والسياسية والاجتماعية وما أصابهم من دمار وهلاك وفقر وجوع وسوء تغذية وما تبع ذلك من ويلات وآثار ونتائج.
وما حدث في القارة الأفريقية حدث لدى كافة شعوب العالم الضعيف، وإن تفاوتت المصائب نسبياً كما في الصومال وراوندة، فتن، وفقر، وتخلف، واقتتال، وكذا في البوسنة والهرسك وكوسوفو وإيرلندا والشيشان، أيضاً في الهند وباكستان والعراق والسودان وإثيوبيا.
كل ذلك يعتبر وصمة عار في جبين حضارة هذا القرن.
لقد تسابق العملاقان أصحاب الحرب الباردة في إذكاء نار حروب حقيقية بين شعوب الدول الضعيفة من أجل رفع إيرادات كل منهما من الكتل التابعة لهما من جراء بيع الأسلحة ومستلزمات الحرب والقتال.
وقد بلغت الحروب نتيجة ذاك التسابق قرابة 148 حرباً، كانت حصيلتها أكثر من 40 مليون قتيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انتهاء الحرب الباردة بزوال وتفتت ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي.
ورغم فوز الرأسمالية على الشيوعية والاشتراكية بالضربة القاضية وانتهاء الحرب الباردة بفوز العملاق الأمريكي على العملاق السوفيتي، إلا أن آثار هذه الحرب ظلت باقية ومستمرة وتزايد تردي أوضاع العالم الضعيف بكتلتيه الموالية للمنتصر والموالية للمنهزم.
وذلك لأن أمريكا ازدادت بنصرها وفوزها غطرسة واستمرت بسياستها وهيمنتها على العالم كله بكتله ودوله وحكامه وشعوبه وخيراته وثرواته وطاقاته.
ولذا، نادت بالنظام العالمي الجديد، ودعت للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية والتوقيع على اتفاقية الجات، وأيدت بشدة العولمة، وكرست مبدأ الدولرة، ورحبت بالخصخصة، وحاولت نشر شعار الأمركة بشكل واسع.
أجل هذا وهذا فقط جعل الحضارة المعاصرة مبتورة تتصف بالإجرام، لوقوفها موقف المتفرج أمام كل ما يحدث للإنسان من آلام وويلات، بل أنها تضع كل الإمكانات والوسائل الحضارية والتقنية الحديثة في خدمة الدمار والهلاك ورؤية مواكب الأموات وأنهار الدماء، وهكذا يبقى الإنسان جائعاً مريضاً متألماً.
ولم تستطع الحضارة المعاصرة التستر وإخفاء آثار الحرب الباردة وما خلفته من ويلات ومصائب للإنسانية، هذه الحرب التي تستحق أن تعتبر حرباً عالمية ثالثة شاملة.
يقول مارك ها تفيلد السيناتور الجمهوري الأمريكي: إن انهيار الاتحاد السوفيتي جعل الأمريكيين تجار موت بلا منازع في العالم كله، وأصبحوا تجار الأسلحة الأكثر عدوانية في العالم، فقد باعت أمريكا خلال عام واحد فقط ما قيمته 5.13 مليار دولار من الأسلحة.
يقول محمد نجاح شبيب في كتابه «الشرائع والأخلاق بين الحضارة والانحطاط»: انتهت الحرب الباردة وارتفعت الستائر والحجب عن نتائجها وآثامها وحقائقها وما تولد عنها من حروب وفتن وتجويع وإفقار وجرائم وفساد.
حقيقة الأمر فإن كل ما حدث كان نتيجة منطقية لتبعية الدول الضعيفة للدول القوية، الذي جعل الدول القوية تمتص خيرات الدول الضعيفة وثرواتها وما المجاعة إلا جزء من ويلات الحرب الباردة.
والمشكلة أن العالم الضعيف لم يستطع حتى الآن تشكيل قوة اقتصادية عالمية رغم امتلاكه لكل مقوماتها من مؤهلات وقدرات وإمكانات.
فقد أحكمت الدول القوية المستغلة قبضتها الاستعمارية الاقتصادية على العالم الضعيف وأخضعته لديون وهمية بلغت أكثر من 14 مليار دولار، وجعلتها سببا لامتصاص خيراته وثرواته وطاقاته.
كما كبلت القوة الاستعمارية قدرة الدول الضعيفة بِدَيْن يصعب الإفلات منه، إذ جعلته كحبل الشيطان لا ينتهي، حيث بلغت فوائده المركبة ثلاثة أضعاف الدين الأصلي، وكلما تزايد رقم الدين تزايد معه استنزاف الخيرات والثروات والطاقات.
لذا، استخدمت الدول القوية طاقات العالم الضعيف وأراضيه وبحاره وسواحله لنقل الصناعات القذرة، ودفن النفايات المشعة والسامة فيها واستعمالها أيضاً كقواعد عسكرية واستراتيجية.
إنه استعمار حضاري حديث جعل الشعوب الضعيفة تزرح تحت قيود لا تنتهي.. فأين المخرج؟!!
*عضو هيئة التدريس بجامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|