| محليــات
اقتضت حكمة الله البالغة، بالفناء على من في هذا الكون لأن البقاء الدائم لله جلّ وعلا، والموت حقّ وكل الناس ذائقه.. لكن وقعه أليم على النفس البشرية. ومكانته أكبر عندما يكون المفقود عالماً عرف بمواقفه كلُّ يذكر هاله، وترك أثراً في المواقع التي عمل فيها ملموس الثمرة.
والشيخ: ناصر بن حمد بن راشد، الذي انتقل إلى رحمة الله، وفارقت روحه جسده يوم الاثنين 2 شوال عام 1422ه وووري الثرى في مقابر العود، بعد أن صُلّي عليه ظهر الثلاثاء بجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض، في موكب حافل من الامراء والعلماء والوجهاء، وألسنتهم تدعو له بالمغفرة والرحمة وقد نعاه الديوان الملكي في وسائل الإعلام.
هذا الشيخ أدرك مكانته الجميع، عندما كان رئيسا لتعليم البنات، بالحزم والمحافظة على هذا النوع من التعليم الذي اهتمت به الدولة وجعلت له نمطاً مميزاً، مستمداً من المنهج الشرعي، الذي كان مرسوماً، منذ بدأ الملك عبدالعزيز رحمه الله في مسيرته لتوحيد البلاد، وزاد تطبيقاً ومتابعة، بعدما استقرت الدولة في مملكة ذات سيادة، تهتم بالبناء والتعليم، وتتبع ذلك أبناؤه من بعده على هذا الدرب الذي سداه ولحمته في جميع الأمور: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
ففي عهد الملك سعود رحمه الله تمت الاستعدادات لفتح مدارس للبنات في المملكةفكانت فاتحة المدارس في بداية العام الدراسي 1380ه وبمشورة سماحة مفتي عام الديار السعودية والمشايخ، كان الشيخ ناصربن حمد بن راشد هوثاني رئيس لهذا الجهاز، الذي لم يمكث فيه الأول الا مدة يسيرة..
وقد عرف الشيخ ناصر في هذا العمل بالمتابعة وتقصي الصغيرة قبل الكبيرة. وعدم التواني في أي نقطة ضعف قد تبدو، أو التماس المعاذير في المراقبة والمتابعة.. فرسم خطاً ثابتاً لهذا القطاع التعليمي: اداريا وتربوياً، ومحافظة وتميزاً.. وترك بصمات اقترنت باسمه.
وبحكم عملي معه في هذا المرفق الحيوي. فترة طويلة، فأشهد الله على حرصه وأمانته، وصدقه واخلاصه وله في هذا الميدان مواقف عديدة يعرفها الكلّ، حتى كانت ثقة المواطنين في سلامةالتعليم، والمحافظة على بناتهم، مزيلة لما عند بعضهم من نفرة حول القناعة بتعليم البنات بادىء الأمر.
وأذكر من تلك المواقف، أنه يخرج متنكراً بعد صلاة الفجر، ليمر على بعض المدارس عند دخول الطالبات، لمراقبة الوضع عن كثب، خوفاً مما يسيء للطالبات، ولطالما اصطدم مع بعض من يحاول تعكير الماء الصافي، ولما وهبه الله من قوة بدني، ونشاط جسدي، فإنه يقف وحده رادعاً بالقوة هذا العمل فأصبح مهيب الجانب.
وقد اختط في هذا المنهج أساليب تتلاءم مع كل حالة ليس في الرياض وحدها بل في أنحاء المملكة، والمسؤولون في الدولة أعانهم الله يحمدون له ذلك، ويعينونه بالردع والتأديب..
كما كان شديداً على العاملين والعاملات في هذا القطاع، لمراعاة المصلحة: شدة في غير عنف، مع اللين من غير ضعف..
وبلغ من اهتمامه بالعمل: أن كان يقف على الصغيرة قبل الكبيرة، ويقف بصلابة أمام شروط القبول لهذا العمل، فالمندوب والسائق وبواب المدرسة، من أوليات شروطه أن يكون متزوجاً، ومشهوداً له بالاستقامة والمحافظة على الصلاة في أوقاتها.. والبواب في المدرسة والسائق لابد ان تعمل معه زوجته.
أما الموظفون فطالما أعاد لديوان الخدمة المدنية ذلك الوقت بعضهم لتفرسه فيهم عدم اللياقة للعمل عنده سواء بالمظهر أو بالتحري والسؤال، أو بالمقابلة الشخصية، وطالما جازى بشدة طالبات وعاملات في المدارس، بما يخيف غيرهن، لأنه بان له بما لا يقبل الشك تصرفات غير مناسبة . لمعرفته رحمه الله بحساسية هذا المرفق وحرصه على نقاوته.
أما المباني المدرسية، والمواصلات وأعمال الخدمات المساعدة فكل هذا موضع ملاحظته وتفقده، لما يرى في ذلك من أهمية في تسيير العمل، ورعاية «القوارير» اللواتي كنّ موضع عنايته وتفكيره. ذلك أن تلك الأعمال، لها أهمية كبيرة في قناعة المسؤولين والمواطنين، بوجود من يهتم بفلذات أكبادهم، ويولي عناية مريحة في المحافظة على بناتهم..
وكما هو معروف عن المرأة حبّ التجمل والتباهي، وبعد أن برزت هذه الحالة في المدارس في أول عهده، رأى بعد التشاور مع من يعينه في هذا، منع أمور كثيرة على المعلمات والطالبات، منها لبس الحلي وقت الدوام الدراسي، وأهمية تحديد لباس موحد للطالبات ومراعاة الحشمة والتستر وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية، وغير هذا من أمور كان لها أثر في نفوس الأسر ذات الدخل المحدود خاصّة، وغيرهم عامة.
فهو رحمه الله كان يحرص على تلمس الأمور، الواضحة في أثرها، المريحة في مفعولها.
ومع المراكز العملية التي نوّه عنها الديوان الملكي، في نعيه للشيخ ناصر رحمه الله المتمثلة في: رئاسة تعليم البنات، بعد عمله في القضاء بمكة المكرمة وأبها، ثم رئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وأخيراً رئاسة ديوان المظالم، الى ان طلب الإعفاء من العمل لمرضه.
فقد كان عضواً في هيئة كبار العلماء بالمملكة.. وقد حدثني رحمه الله عن بدية حياته الدراسية والعملية، ومما قاله: إن والده توفي وهو صغير، وبعد أن شبّ عن الطّوق، ضاقت به السبل، وكان عمه ناصر الراشد أو هكذا كان يسميه قد سكن في مكة حيث وجد عملاً، فاتجه إليه وبدأ يدرس في حلقات المسجد الحرام، على بعض المشايخ، لأنه قد حفظ ما تيسر من القرآن الكريم في بلده ومسقط رأسه حريملاء.. وقد ساعده الله بذكراة جيدة، ونباهة أعانتاه على التزود العلمي.
في أثناء الدراسة، كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يرسل الدعاة الى تهامة وجنوب الطائف لتوعية الناس، وازالة ما قد يوجد من منكر، ومن المكلفين بهذا الشيخ: محمد بن حمد الراشد، رحمه الله الذي وجد في الشيخ حماسة، وتفرس فيه خيرا، فكان يأخذه معه، مما لفت انظار المشايخ اليه لوقاره وهيبته، فكلف بالعمل في هيبته الامر بالمعروف بمكة، فترة من الزمن.. وكان الشيخ محمد هذا له درس في الحرم، وعمل في المعهد السعودي، وهو ليس من اسرة الشيخ ناصر ثم جاء تعيينه بالقضاء، في ابها ومكة.. وكان اهالي ابها لقوة شخصيته وحزمه وحرصه، يسمونه: المدفع.
وما ذلك الا أنه رحمه الله كان يتميز بصفات ثابتة، راسخة في طباعه: الديانة وحب الخير، والثبات في كل يقتنع به، وعدم التسرع في الأرض، والحزم والهمة العالية.. والبر والصلة بأقاربه.
وفيما يتعلق بالأعمال والاجتماعات، فقد كان حريصا على التشبع بالموضوع المراد عرضه، ودراسة جوانبه حتى لا يعطي رأيا بغير تيقن، او المناقشة في شيء دون الاحاطة بجوانبه.
ومن هنا كان كثير القراءة، وليست قراءة عابرة لكنها قراءة باستيعاب.
فرحم الله الشيخ ناصر بن حمد بن راشد، الذي ما رأيت في جنازته يوم تشييعه، إلا الثناء الحسن، والدعوات النابعة من الاعماق، والذكر الحسن في كل من عرفه، في اي ميدان عمل فيه، وكان الشاعر قد عناه بالقول:
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حقاً لمن روى |
ففي مجال الدعوة هو الداعية الغيور، وفي السلك القضائي تجد وقار القاضي، الحريص على إبانة الحق، وتسليمه لصاحبه المستحق، وفي تعليم البنات، تمتزج الادارة النزيهة بالنصح والاخلاص، يمثل الاداري الحازم، بالقدوة والمتابعة، فهو اول الموظفين حضورا، وآخرهم انصرافا، يقدر العامل المخلص، واذا خوّف بالله غيّر مواقفه ولي معه رحمه الله في هذا مواقف.
ناهيك بحنكته التربوية، واهتمامه بالمنهج التربوي المناسب، وهو الذي لم يدرس شيئا عن التربية الحديثة، ولكنه اخذها من تربية الاسلام، ويدرك هذا من زامله في جلسات المجلس الاعلى للتعليم، وفي بصماته الاولى على النظام السياسي لسياسة التعليم في المملكة بمواده التي بلغت 236 مادة، حيث كان له دور في الضيافة، عندما كان عضوا بهذا العمل.
وما ذلك الا انه يتحدث من ميدان العمل وليس من قراءة النظريات، وتجربة الآخرين.
وفي الميدان الشرعي، يمثل العالم المتشبّع بالمفاهيم الشرعية، العارف بآراء العلماء ووجه استدلالهم في كل ما يعبرون عنه.. فالشيخ ناصر رحمه الله لا يعرف الجوانب العديدة في حياته، وتطبّع نفسه الا من احتكّ به في عمل او ناقشه في قضية، حيث يجد فيه بعد النظر، ووضع الاحتمالات في الحسبان.
فرحم الله الشيخ ناصر بن حمد بن راشد واسكنه فسيح جناته وعوض الله الأمة عنه خيرا، وبمن فيه نفع للاسلام والمسلمين وغيرة على الوطن والمواطن.
|
|
|
|
|