| مقـالات
هل قاتلت أمريكا حقاً في أفغانستان؟.. قد يبدو السؤال للوهلة الأولى غير واقعي، أو نوعاً من التلاعب بالألفاظ، لكنه يظل سؤالاً حقيقياً، بل وبالغ الأهمية والأثر في رؤية الولايات المتحدة للأعداء، وإستراتيجيتها العسكرية في المستقبل.
فما جرى في أفغانستان كان نوعاً من المواجهة الغريبة بين أقوى دولة في العالم اقتصادياً و عسكرياً وتكنولوجيا، وبين واحدة من أفقر دول العالم، وأكثرها معاناة من الحروب الأهلية، ولم تكن المواجهة مع شعب أفغانستان الذي هزم من قبل امبراطورية الشر السوفيتي، بل كانت مواجهة مع شعب منقسم على نفسه، يعاني من ويلات الحرب الأهلية ومن تشدد حركة طالبان التي نجحت في تأليب الاثنيات والأعراق الأفغانية المختلفة ضدها.
كانت مواجهة عسكرية وسياسية ودعائية تقودها الولايات المتحدة بدعم من تحالف دولي عريض ومؤثر من الدول الغربية والهند وروسيا.
اضافة إلى تحالف داخلي عريض من الفئات والفصائل الأفغانية التي تناصب طالبان وتنظيم القاعدة العداء الشديد، وفي ظل هذه التحالفات استخدمت الولايات المتحدة اشد اسلحتها تدميراً، وأكثرها تقدما من الناحية التكنولوجية، بل إنها جربت أسلحة جديدة لم تستخدم من قبل، من هنا يصح قول المراقبين بأن ما حدث في أفغانستان هو حرب التكنولوجيا المتقدمة وثورة المعلومات والتي اذا ما قورنت بالأسلحة التي استخدمت في عاصفة الصحراء، تبدو الأخيرة وكأنها نوع من الحروب البدائية.
لكن المفارقة أن كل هذا التقدم التكنولوجي في الأسلحة والعمليات العسكرية على أرض افغانستان كان يستخدم في مواجهة خصم لا تتوافر لديه قدرات الحد الأدنى من تكنولوجيا الحرب والتنظيم العسكري، ويراهن على خوض حرب برية تقليدية مع قوات أرضية، أي إننا كنا بصدد مواجهة بين قوات تنتمي الى عصر العولمة أو ما بعد الحداثة، وقوات طالبان والقاعدة التي تمثل عصر ما قبل الحداثة، ولا تعرف شيئاً عن تكنولوجيا التسليح والاتصال.. هذه المفارقة بين جبروت القوة الأمريكية المتقدمة تكنولوجيا وبين ضعف طالبان والقاعدة واسلحتها التقليدية خلقت حالة من حالات اللا حرب، بمعنى أن المواجهة لم تكن قتالاً كما عرفته البشرية أو حرباً كما عهدها الخبراء العسكريون، بين خصمين قد يتعرض كل منهما لقدر من الخسائر، حتى لو أحرز أحدهما النصر، مثل الحرب العالمية الثانية، أو حرب فيتنام أو حتى حرب تحرير الكويت، إنها كما وصفها بعض الخبراء الاستراتيجيين كانت نوعاً من التدريب والاختبار لأسلحة جديدة على أهداف مثالية.
لكن المأساة ان أهداف هذا التمرين على الحرب التكنولوجية والتي تعرف باستراتيجية الحرب الجوية كانت من لحم ودم ومشاعر، فقد سقط آلاف من المدنيين الأبرياء، وخسرت أفغانستان ما تبقى لديها من بنية أساسية، كما قتل لحركة طالبان ما يقدر بعشرة آلاف مقاتل، علاوة على مأساة الأفغان العرب، لقد مات هؤلاء أو نحروا دون أن يروا العدو، أو تتاح لهم فرصة قتاله أو الالتقاء به، فالحرب الجوية التكنولوجية الجديدة تقوم على فكرة القتل من بعد، باستخدام الطائرات من على ارتفاعات شاهقة، وكذلك الصواريخ والذخائر الذكية الموجهة بالليزر أو باشارات صادرة عن أقمار اصطناعية، مما يساعد على انزال الضربات الموجعة بالعدو، وتدمير منشآته الحيوية وقتل و اصطياد أفراد قواته دون تعريض أفراد القوة المتقدمة تكنولوجياً للخطر، من هنا فان ما حدث في افغانستان هو نوع من المطاردة بهدف ممارسة القتل، بعبارة أخرى لم تقاتل الولايات المتحدة في افغانستان بل مارست القتل، لأن العدو لا يمتلك شيئاً من أدوات الحرب الجوية التكنولوجية، ولم تتح له حتى فرصة استخدام ما لديه من أسلحة تقليدية ضد القوات الأمريكية، والتي لم يرها أصلاً، ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الخسائر في القوات الأمريكية البشرية محدودة للغاية وتكاد لا تذكر، خاصة وأن الحملة الأمريكية على أفغانستان اعتمدت في العمليات الأرضية والتي تحتاج إلى مواجهة رجل لرجل على قوات تحالف الشمال، أي وجدت من يقاتل قتالاً تقليدياً بالنيابة عنها!! وبالاعتماد على وكلاء محليين.
وتجدر الاشارة إلى أن الاستراتيجيين الأمريكيين قد ناقشوا قبل حرب أفغانستان قضية جدوى وفاعلية الحرب الجوية التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة وثورة المعلومات، حيث كان هناك من يرى أن هذه الحرب لا جدوى منها إلا من خلال الاعتماد والمزاوجة على القوات الأرضية وبعض العمليات التقليدية، في المقابل أكد أنصار الحرب الجوية التكنولوجية ان المستقبل هو لهذا النوع الجديد من الحرب، والذي ضمن للولايات المتحدة تحقيق نصر مبهر في العراق وصربيا وأخيراً أفغانستان من دون أضرار أو خسائر بأفراد القوات الأمريكية.
ولا شك أن أنصار الحرب الجوية لديهم الآن الكثير لكي يفتخروا به، فالولايات المتحدة حققت نتائج عسكرية مذهلة في الحروب الثلاث الأخيرة التي خاضتها، ولم تعرض أبناءها للخطر، ووجدت دائماً قوات صديقة أو متعاونة لتخوض الحرب البرية عوضاً عن توريط جنودها في عمليات قتال تقليدي قد يؤلب عليها الرأي العام الداخلي، والذي لا يتحمل قدراً ولو محدوداً من الخسائر في الأرواح البشرية.. في هذا المناخ من الطبيعي ان ينمو الفكر الداعي لممارسة الحرب أو بالأحرى القتل طالما أن ذلك لن يعرض الجنود الأمريكيين للخطر، ويضمن النصر، ويحقق مزيدا من التوسع والهيمنة.
أعتقد أن الخطر الحقيقي الذي يهدد السلام العربي، ويثير مخاوف دول العالم الثالث وفي مقدمتها الدول العربية هو استسهال الحرب من وجهة النظر الأمريكية، والشعور بأن التفوق العسكري والتكنولوجي الهائل يضمن خوض حروب وتحقيق انتصارات مقابل هزائم محدودة.
ان انتشار هذه الأفكار يكشف عن الجانب المظلم لاستخدام وتوظيف التكنولوجيا وثورة المعلومات ضد الشعوب الفقيرة، ويعيد إلى الأذهان فترة التوسع الاستعماري والتي كانت القوى الأوروبية تجبر من خلال تفوقها العسكري شعوباً عريقة على الاستسلام والاذعان لاطماعها التوسعية. والمأساة أن تغير مفهوم الحرب من القتال الى المطاردة والقتل، وكذلك التهديد بتوسيع نطاق الحرب يأتي في مطلع القرن الواحد والعشرين والذي كنا وما زلنا نأمل في أن يكون قرنا جديدا للسلام والتعاون بين الشعوب!!
|
|
|
|
|