أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 16th December,2001 العدد:10671الطبعةالاولـي الأحد 1 ,شوال 1422

مقـالات

لماذا نفرح في العيد؟!
إبراهيم بن عبدالله السماري
العيد معنى جميل متجدد، تسري عذوبته في الوجدان، وهو سحب ممطرة بالفرح ينتشي بها نهر الابتهاج. ذلك أن أيام الأعياد أيام جميلة تبعث في النفس سروراً واغتباطاً، وتهز الجوانح بشراً وانشراحاً. وقد يتساءل متسائل: لماذا يفرح المسلم بالعيد؟ والجواب أن مبعث ذلك ومنشأه عائد إلى عدة أمور، من أهمها ما يأتي:
أولاً: أن الفرح سنة نبوية شريفة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، تضربان بدف، قالت: وليستا بمغنيتين، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه. ودخل أبوبكر رضي الله عنه فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما، يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا. فلما غفل غمزتهما فخرجتا. قالت عائشة رضي الله عنها: وكان يوم عيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر الى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية، قال صلى الله عليه وسلم: تشتهين تنظرين؟ قلت: نعم! فأقامني وراءه، خدّي على خدّه صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم يقول: دونكم بني أرفدة حتى إذا مللت قال صلى الله عليه وسلم: حسبك؟ قلت: نعم! قال: فاذهبي.
قالت عائشة رضي الله عنها: فاقدروا قدر الجارية العَرِبَة الحديثة السن حريصة على اللهو.
وفي هذا الحديث الشريف عدد كبير من الفوائد التربوية المهمة جداً في حياة المسلم، ومن أهم تلك الفوائد: حسن التعامل مع الآخرين بالبعد عن ما يخجلهم أو يحرجهم ويشق عليهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم اضطجع على الفراش وحوّل وجهه لئلا يحرج الجاريتين المغنيتين.
ومن تلك الفوائد: حسن الخلق، عن طريق الحرص على ملاطفة الأهل من زوجة وولد، فالرسول صلى الله عليه وسلم ألصق خدّه بخدِّ زوجته عائشة رضي الله عنها ليشعرها بملاطفته وقربه منها.
ومن تلك الفوائد: الحرص على الحوار الإيجابي عند محاورة الآخرين، قبل اتخاذ قرار «ما» يتعلق بهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل عائشة عن رغبتها في النظر إلى لعب الأحباش ليشعرها أن فعلها هو قرارها لاقراره هو.
ومن تلك الفوائد: إلانَةُ القول عند خطاب الآخرين والبحث عن المسالك النافعة للاستئثار بإصغائهم وحسن قبولهم، والحرص على التشجيع والتحفيز لحث العامل في الأعمال المباحة على إتقانها، والشعور بالسعادة لتقدير الآخرين لفعله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: دونكم أي للترغيب والتنشيط بني أرفدة وهذا لقب الأحباش .
ومن تلك الفوائد: الإدراك الواعي أن للنفوس إقبالاً وإدباراً، والحرص على استثمار أوقات إقبالها، ومراعاة أوقات إدبارها، لأن هذا الإقبال والإدبار من طبيعة النفس البشرية، وله تأثير في قبولها وامتناعها، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: حتى إذا مللت، قال صلى الله عليه وسلم: حسبك؟ أي: هل اكتفيتِ؟ قلت نعم، قال: اذهبي.
وفي قول عائشة رضي الله عنها: حسن أدب الزوجة مع زوجها، فلا تفعل شيئاً حتى تستأذن زوجها فيه، فذلك مما يولد الألفة والاحترام والمودة بين الزوجين. ويستفاد منه أنه قد ظهر منها ما يدل على الملل، مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألها عن رغبتها في ترك المكان، وفي ضوئه فإنه ينبغي للمربي أن يحسن التعرف على نفسية المتعلم أو من يتعامل معه لمراعاتها.
ويستفاد من نص الحديث: بيان أهمية اللعب في مجال التربية بالذات، تقول عائشة رضي الله عنها: فاقدروا قدر الجارية العَرِبَة أي المشتهية للعب الحديثة السن حريصة على اللهو.
ثانياً: الفرح بالعيد تعبير عن شكر المسلم ربّه، حيث أنعم عليه بإتمام صيام شهر رمضان المبارك، راجياً أن يكون الله تعالى قد قبل عمله فيه، وتجاوز عن تقصيره. والفرح المأمور به المسلم هو الفرح الذي لا يُطْغِي ولا يؤذي، فلا يحمله ذلك الفرح على الطغيان بارتكاب المحظورات شرعاً أو عقلاً، من منهيات الشرع، أو الأفعال التي يأباها ويجافيها العقل السديد، ويمجها ويناقضها السلوك الرشيد، ولا يذهب به الفرح إلى حد إيذاء نفسه أو إخوانه المسلمين أو مجتمعه أو بيئته.
ثالثاً: العيد فرصة لكي يظهر المسلم آثار نعمة الله عليه، للتعبير عن شكره عليها، باللباس الجميل وبالتهيئة المناسبة. والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عبده كما ورد في الحديث الصحيح.
رابعاً: العيد فرصة للتواصل بين المسلمين، وإظهار الألفة والمودة في علاقاتهم الاجتماعية، ولاسيما صلة الأرحام وذوي القربى. وحين يتبادل الناس التهاني بالعيد فإن الأجواء يغمرها الفرح والبهجة، وتشيع في النفوس دواعي الألفة فتذوب الخلافات، وتختفي الأحقاد ويزول غيظ الصدور، وتنتهي الشحناء، لأن النفوس تهيأت للصلح والتسامح.
وما أجمل العيد حين يتحول إلى ميدان تنافس خيِّر، عن طريق اجتماع الجيران والأقارب لتناول طعام العيد معاً، والتفنن في صنعه دون إسراف أو مخيلة، فكل بيت يحضر إلى موقع الاجتماع ما صنعه من طعام بطريقته الخاصة ثم يقوم الحاضرون بتذوق أنواع الأطعمة كلها، ويثنون على المتميز منها، وعلى كفاءة من صنعه.
لقد اختفت اليوم هذه الصورة الجميلة من كثير من الأحياء والمدن، وحلّت محلّها صورة أخرى هي: الاجتماع في الاستراحات وفق نمط واحد على طعام يصنعه طباخ محترف، ليست فيه لذة طبخ البيوت ولا التنافس على تنوعه وتزيينه. وإن بقيت فيه صورة من صور المحافظة على الالتقاء.
والتقصير اليوم ليس في ضعف صورة الالتقاء بين الناس، ولكنه امتد إلى تقصير كثير من الناس في أداء صلاة العيد، وهي وإن كانت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، إلا أن العاقل يتساءل: لماذا يتجاهل كثير من الناس فضل ومشروعية صلاة العيد؟ وكيف يتسابق الناس بل يتناحرون ويتنازعون في كل محفل أو أمر يُرجَى منه نفع مادي دنيوي، ويتقاعسون ويضعف إحساسهم إذا كان ذلك الأمر أخروياً؟
خامساً: العيد شاهد على حرص الإسلام على الوسطية والتوازن، لأن العيد يجمع بين تلبية المطالب البشرية، بإشاعة الفرح والحبور في النفوس، وممارسة اللهو المضبوط بضوابط الشرع، وبين الوفاء بالمطالب الإيمانية الروحية، عن طريق العبادات المشروعة، كصلاة العيد، والتكبير، ونحو ذلك من الاستغفار والتحميد والتهليل إلخ..
سادساً: العيد فرصة سانحة ليتذكر المسلم إخوة له حرمتهم ظروفهم من لذة الفرح بالعيد، إما لغيابهم فيسأل عنهم، وإما لمرضهم فيعودهم، وإما لفقرهم فيساعدهم، وإما لسجنهم أو سجن عائلهم لسبب خارج عن إرادتهم فيسعى في فك أسر أسيرهم، وإما لموتهم فيدعو لهم.
ولابد هنا من الإشادة بما دأب عليه خادم الحرمين الشريفين من إصدار عفو سنوي عن سجناء الحق العام، ليتمكنوا من مشاركة أسرهم فرحة العيد.
ولابد أن يستشعر المسلم في العيد جراحات أمته الإسلامية تفاعلاً معها ومشاركة في تخفيفها وسد حاجة إخوانه المسلمين في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، فذلك من معاني العيد في أزهى صورها ليشعر الجميع برابطة الأخوة الإسلامية.
سابعاً: قبل أن يخرج المسلم إلى صلاة العيد يوم الفطر عليه واجب ديني لابد أن يؤديه، ذلكم هو تأدية زكاة الفطر، التي هي طعمة للمساكين تسد حاجتهم في هذا اليوم السعيد وبعده، وطهرة للصائم تجبر نقص صومه.
وهذا الواجب تهيئة نفسية للمسلم كي يكون فرحه مضاعفاً، بما يدخله عليه شعوره بإسهامه في مشاركة إخوانه المسلمين من راحة وسعادة، كما أن هذا الواجب يتيح للفقير والمحتاج مشاركة إخوانه المسلمين فرحتهم بالعيد، ولذا فإن الإسلام يحث المسلمين على أن تكون صدقاتهم الواجبة وغير الواجبة محققة أهدافها «وإذا أعطيتم فأغنوا».
ثامناً: العيد مناسبة للترفيه المبرأ من الزيغ والابتذال، فالترفيه المباح البعيد عن محظورات الدين ومجافيات الخلق القويم والعقل الراشد ضرورة تقتضيها مناسبة الفرح بالعيد، وتتطلبها حاجة المسلم إلى تجديد نشاطه، ليقبل على عبادة ربه بهمة ونشاط، إذ المقرر أن الترفيه ضرورة لحفز همم الإنسان وتنشيط مداركه التي قد لا يستقيم سيرها على نمط واحد في كل الأوقات، فلابد من الترويح عن نفس الإنسان لتسترد صفاءها وحيويتها.
تاسعاً: العيد يرتبط بالزينة، قال الله تعالى على لسان موسى صلى الله عليه وسلم: «قال: موعدكم يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضحىً»، قال ابن كثير رحمه الله: يوم الزينة أي: يوم عيدهم واجتماعهم، والزينة سبب من أسباب الفرح والحبور.
عاشراً: العيد معناه العود أي التكرار، ومعنى ذلك أن بين كل عيد والعيد المماثل سنة كاملة، لابد أن يحاسب المسلم نفسه كيف ذهبت أوقاتها، وماذا عمل فيها، لأنه مسؤول عن ذلك يوم القيامة قبل أن تزول قدماه.
والعيد مناسبة تربوية مهمة جداً إذا أحسن المربّون إدناء معانيها النبيلة إلى عقول وقلوب المتعلمين ولاسيما الناشئة منهم، ويكفي أن أشير مجرد إشارة عابرة إلى بعضها، مثل: مشروعية الغسل والتطيّب ولبس الجميل من الثياب، فقد روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين. فلبس الجميل من الثياب دليل على النظافة الداخلية والخارجية، نظافة القلب والبدن.
ومن المعاني التربوية في العيد: مشروعية الأكل قبل الخروج الى المصلّى، وورد أن يكون الأكل تمرات وتراً، فالوتر لما في ذلك من معنى التوحيد، والأكل من أجل الحرص على إعطاء البدن حقه من الرعاية والمطالب كالأكل والشرب والبعد عن الرهبنة، ولذا حرَّم الإسلام صوم يوم العيد، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صوم هذين اليومين، أما يوم الفطر، ففطركم من صومكم وعيد المسلمين، وأما يوم النحر فكلوا من نسككم.
ومن تلك المعاني: العودة من طريق غير الطريق الذي سلكه المرء عند ذهابه للمُصَلَّى دلالة على رجاء تغيير الحال إلى الأفضل.
ومن تلك المعاني التكبير ليلة العيد لما فيه من إحداث التوازن المطلوب بين الاستمتاع بنعم الله وإرواء حاجة البدن إليها، دون نسيان إرواء حاجة الروح من التعلّق بالله تعالى والارتباط به سبحانه، ومن تلك المعاني: التهنئة بالعيد بألفاظ ذات دلالة تربوية وإيمانية.
وغير ذلك من الاستثمارات التربوية في معاني العيد، التي غفل عنها المربّون والواعظون والمصلحون، وكان من حق الناس عليهم أن يغترفوا لهم من سمو أهدافها ما ينعكس على سلوكهم قدوة واستجابة وامتثالاً.
هذا وبالله التوفيق.
alsmariibrahim@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع












[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved