| الثقافية
في كل ليلة عيد تعتريه المتناقضات..
فرح.. وترح..، آمال.. وآلام..
خواطر مضطربة..، ومشاعر ملتهبة..
الشوارع تغص بالسيارات والمارة..
أصوات المفرقعات التي يطلقها الصبية تدوي هنا وهناك..
عقارب الساعة تقترب من الثانية عشرة في منتصف الليل.
سمع صوت الجرس.. فتح الباب.. تحادثا لحظات.. (لنذهب إذاً بسرعة!).
ركبا معا.. ابتعدا عن مركز المدينة المكتظ..
حركة السيارات تقل كلما سارا، الأضواء تخفت شيئا فشيئاً..
(سبحان الله!، ما ظننت أنني سآتي هذا المكان في يوم من الايام، وها أنا آتيه، آتيه ليلة العيد!!).
الظلام يلقي بثقله ويملأ فراغات هذا المكان، إلا من أنوار السيارة، وبصيص الإضاءات الخافتة التي تتسرب من البيوت.
وقفت سيارتهما في مدخل هذا المكان.. ليس هنا شوارع، بل ازقة متشابكة تتخلله.. ترجلا..
السكون يبعث جوا من الرهبة.. ويسود المكان إلا من قرع أقدامهما،
وضحكات اطفال وأهازيج تسمع من بعيد..
استهواه منظر السماء التي تطرزها النجوم الى الآفاق..
ورأى هالة من أنوار المدينة تطل من الأفق البعيد..
أخذ يسبح في مخيلته مقارنا بين المكانين..
البيوت هنا صغيرة، ومتراصة كأنما يعاضد بعضها بعضاً..
تحكي امتداد الزمان وشموخ المكان..
أشجار طويلة تنتصب كالأشباح هنا وهناك..
وقفا أمام أحد البيوت:
نورٌ خافت يتسلل على استحياء من أسفل الباب ومن شقوق النوافذ المهترئة..
الناس هنا يترقبون ما يأتيهم في كل ليلة عيد.
طرقا الباب.. أجابهما صوت متهدّج من عمق البيت.. فُتح الباب..
شيخ كبير يتوكأ على عصا، ويحمل في يده الأخرى سراجاً..
رسمت تجاعيد السنين على وجهه معاناة الثمانين.
(هذا الكم).. انهالت الدعوات من الشيخ.
مضيا إلى السيارة.. رجعا.. طرقا بيتا آخر.. ودعوات أخرى كذلك.. ظل الاثنان يجوبان الأزقة جيئة وذهاباً...
(الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر...) النداء الخالد يشق سكون الليل، ويبدد ذلك الصمت الرهيب.. والحزين ايضا.
نسمات السحر تعبق في الأرجاء، تؤذن بصباح جميل..
عادا إلى المدينة، صليا الفجر في أحد المساجد..
افترقا ليتجهز كلٌّ منهما لصلاة العيد.
خرج ماشياً إلى المصلى.. خيوط الإشراق تنسج رداءً جميلاً...
أخذ يستجر في طريقه مشاهد ليلته:
البيوت الطينية.. الشيوخ.. العجائز.. الاطفال الذين يجوبون الأزقة..
المصلى يضج بالتكبير..، أريجٌ روحاني يعبق في الأرجاء..
المشاهد تتوالى في مخيلته..، لا يقطعها إلا تكبير شيخ وقور بجواره..
يتكرر التكبير بين الفينة مبددا تلك المشاهد، التي ما تلبث أن ترتسم في مخيلته من جديد..
خرج من المصلى..
عبارات تحملها أنفاس العيد.. تتردد هنا وهناك.. تسري الى القلوب.. وتتعطر بها الأفواه والآذان:
(تقبل الله منا ومنكم).. (كل عام وأنتم بخير).. (من العايدين).
الابتسامات ترتسم على الوجوه..
بدأ الإرهاق يتسلل إلى جسمه... رجلاه لا تكادان تحملانه...
(وأخيرا عدتُ الى البيت!).
الساعة تقترب من التاسعة قبل الظهر...
بدأ يستجيب لنداء جسده المنهك، ورجليه اللتين أثقلهما جسمه..
مشاهد ليلته تلحّ على مخيلته..
لم يعد يقوى على استرجاع تلك المشاهد..
ألقى بنفسه على الفراش...
|
|
|
|
|