| مقـالات
وفي ديوان «ريتها وسهر القناديل» نلتقي بالشاعر حسن السبع/ في قصيدة «شهرزاد ص1»
أجمل التِّيه تيه يثير الخيال
إذا ما الزمان نَضبْ
هجرتكِ القوافي، وهاصوتها
يعيد بناء القصيد على شفتيك
ويذكي جنون الطربْ
إنه يستعيد بناء حياة متكاملة من خلال هذا الصوت الشعري، وربما الشهرزادي أيضا، كما القصيدة التي تعيد للشفتين النضارة وجنون الطرب، وبرغم أن لهذه البنية كيانا محسوساً منظورا ومسموعا، فإنه يظل في دائرة الصوت نشيدا أو نغما لحد الجنون.
وفي القصيدة نفسها يقول «ص2»:
للمساء على فمها نكهةٌ
غير أن المساء امتداد قصيرْ
قصة.. قصتان..
ثم يقذفك الوقت ثانية للعراء
ولنحاول أن نحدد مع الشاعر نكهة المساء على فم شهرزاد، ملونة بحكاياتها وقصصها الجميلة الرائعة، فنحن لا نضيق بالزمان، ولا نحاول أن نقتله مع شهرزاد بالحكي والقص، ونعمل على هدره وإضاعته، بل هو الذي يضيق بنا، فيقذف بنا الى العراء، ويقول في قصيدة أخرى بعنوان:«التفاصيل واحتمال الياسمين ص20» من الديوان نفسه:
يؤرقني احتمال الياسمين وقد تأخَّر
ما تبقَّى في فمي عذرُ
هو الصبرُ
إناء فارغ
منفى ونسيان
وفي قصيدة «الجدار ص26» يقول: وابتهج الطير المبلَّل الجناح للمطرْ
وحينما صادف أن أفقت
كان على فمي بقايا ضحكة بريئة
داهمها تجهم الجدارْ
تصوَّر معي هول هذه المفاجأة اللامتوقعة، بقايا ضحكة طاهرة بريئة، على فمه، أشلاء مبعثرة متناثرة هنا وهناك، لا حول لها ولا قوة، لا تزيد عن كونها بقايا حياة وحركة وطموح، لكن الأحداث لم تمهلها، بل الحقتها بقافلة الفناء والموت، حيث داهمها تجهم الجدار، وارتطمت بقبضة الواقع الشرس. وفي ديوان الشاعر «عبدالعزيز المقالح دار العودة بيروت، وفي قصيدة «تقاسيم على قيثارة مالك بن الريب ص632» يؤول الأمر بالشاعر الى أن يفقد فمه، ولكنه يواصل أنينه وشكواه، وإعلانه عن قضيته وقدره الذي يتبناه:
أصيحُ بلا صوت، وأشكو بلا فم
وأبكي بلا عين، وأحسو بكائيا
أمامي جحيم لا أطيق اقتحامه
ويلي إذا ما عدت يوما ورائياً
وقد خانني الشعر الحنون، وكان لي
رفيقا، وإن حاربت كان حساميا
ويأتي غازي القصيبي في المجموعة الشعرية الكاملة ص 752 تحت عنوان:«نهر من الدم» ليقول واصفا البلاد العربية:
في كل شبر زعيم مد قبضته
على الجموع، فلم تفعل.. ولم تقُلِ
وكيف ينطق من سدُّوا حنا جره
وكيف يمشي بعبء القيد ذو شللِ
وفي قصيدته:«الموت حباً» ص800/ يقول متحسسا قرب رحيله عن الدنيا، وذلك حين بلغ الأربعين من عمره، ولعل أكثر الناس احساسا بالموت، هم أشد الناس رغبة في الحياة، طلباً لفسحة يصنعون فيها ما لم يستطيعوا صنعه وقد تجاوز القصيبي بحمدالله الثلاثين مرتين، أمتع الله به، يقول:
واليوم جاء الخريف الفظُّ يسألني
متى رحيلك؟ كم تنوي البقاء هنا
واقبلت من وراء الغيب هاجسة
مدائن الغيب: هيَّا.. فاللقاء دنا
والأربعون عويل ملء أوردتي
وفي شفاهي يبكي الصيف.. واللبنا
وفي قصيدته «يارا والرحيل» ص 608/ تحس امتلاء فم ابنته «يارا» آهات، تثير أشجانه، وتتكئ جراحه، وكأنها إذ تتأوّه الآهات الحارقة إنما تعبر عن معاناته، وتضع الملح على جراحه، لإحساسه بتقصيره في ود ابنته يقول:
أبي..! ألا تصحبنا؟ إنني
أود أن تصحبنا يا أبي
وانطلقت من فمها آهة
حطت على الجرح، ولم تذهبِ
وأومضت في عينها دمعة
مالت على الخد، ولم تُسكبِ
ومرة أخرى أيها القارىء الكريم التقي بي معك في ديوان:«تأويل ما حدث/ ص34/ بعنوان «لهيب الغدر» التي أقول فيها:
ماذا أقول ودمعي بالأمس شَرِق
ومهجتي في لظى الأحداث تحترق
وموجة من لهيب الغدر تصعقني
تكاد من وقدها الأنفاسُ تختنقْ
وأحرفي تتندّى في فمي خجلاً
لم يبق فيها لكفّ الشعر معتلِقْ
ويصل الخطراوي أقصى حزنه وأساه، حين يكتشف وجوده المزوّر، وضياعاته ومتاهاته، ويحس بالألم يعتصره ويحوّله الى شظايا من سهاد، هو الانسان المتعاقب مع الصقيع، هو العربي المتنافر مع الربيع، يقول في قصيدة «الورد المزوَّر ص54»:
ما الذي زوّرني ورداً بأفواه البغايا
رفضتْه ليلةُ القدر.. وأفراحُ البرايا
فتشظَّى في الفضاءات سهاداً
وغيوماً ثانوية؟
وفي «أرصفة السفن الراحلة ص90» يتحدث عن الشفتين المليئتين رحيقاً فيقول:
ظمئت إليك..
الى كلماتك تغرسني شجراً في حقولك
تصنعني مطراً يتلألأ في يديك ثماراً
وفي شفتيك رحيقاً، وأغنية ساحلية
ومرة أخرى أقول:
لقد تعمدت في المقالات السابقة التنويع في إيراد الأمثلة، والنماذج لشعراء مختلفين، سعوديين وغير سعوديين ليكون كلامي أقرب الى الحقيقة، من حيث التأكيد على القول بأن شعراء العصر الحديث اتخذوا من الفم وأحواله وحركاته وسكناته وسيلة حثيثة من وسائل التعبير الشعري الحديث، ومن ثم قد يتعين علينا متابعة الأمر بالنسبة للحواس الأخرى من عين وأذن وشم ولمس وغيرها، إذا كان ذلك يسهم في إثراء الدرس الأدبي وتنوير مجاهله.
|
|
|
|
|