| شرفات
على مسرح سان مارتان وقفت سارة برنار تلعب دور غادة الكاميليا تأليف اسكندر ديماس الابن وتحكي عن قصة مرجريت جوتيه الغانية الجميلة الفقيرة.
وذات يوم تعرفت على شاب يدعى «أرمان دوفال» فملأ الحب الطاهر قلبها، وتصورت ان بإمكانها أن تعيش حياة شريفة، لكن والد الحبيب الثري وقف في سبيل هذا الحب الضارّ الذي يهدد مستقبل ابنه إذا ارتبط بهذه الفتاة سيئة السمعة. وذهب الأب سرا يطلب من مرجريت أن تضحي باسم الحب وأن تبتعد عن ابنه ولا تدمر مستقبله. تقلبت الفتاة وأقنعت حبيبها أنها عادت إلى سيرتها الأولى، ليقطع علاقته بها دون ذرة ندم. في نفس الوقت كان مرجريت تخفي عن الجميع حقيقة أنها مريضة بالسل، وعاشت أيامها الأخيرة سعيدة بالتضحية، وماتت دون أن يحزن عليها أحد! أسماها ديماس غادة الكاميليا وهي زهرة بيضاء رمز الطهارة كانت تحبها مرجريت، وأصبحت قصتها أعظم ما يعرض على مسارح أوروبا وكانت سارة برنار أعظم ممثلة في تاريخ فرنسا وأشهر من لعب دور غادة الكاميليا على الإطلاق.
ومثل مأساة غادة الكاميليا كان لسارة برنار مأساتها الخاصة والتي تتشابه معها في تفاصيل كثيرة. فهي ولدت في 23/10 في الحي اللاتيني، طفلة غير شرعية لأم هولندية «جولي» ولأب فرنسي يدعى إدوارد برنار، سرعان ما تخلى الأب عن ثمرة هذه العلاقة الآثمة على حين أن الأم كانت تعيش حياة الفوضى.
ولكي تتفرغ لحياتها ألقت بالطفلة إلى خادمة فقيرة ترعاها لقاء مبلغ شهري، وبينما سارة ابنة الأعوام الأربعة تلعب، إذا بها تسقط من النافذة وتظل طريحة الفراش عامين.
وحين شفيت ألقت بها الأم مرة أخرى في دير، لكن نشأتها الفوضوية كانت كفيلة بطردها من الدير بعد أيام قليلة، لتعود إلى الأم من جديد.
كانت الأم آنذاك، قد نجحت عن طريق جمالها الأخاذ في فرض نفوذها داخل الطبقة الأرستقراطية وأقامت صالونا في بيتها ومن رواده الدوق دي مورني شقيق الامبراطور نابليون الثالث، وعن طريق هذا الدوق التحقت سارة بمعهد الكونسرفتوار قسم التمثيل. والحقيقة أنها لم تكن سعيدة بهذه الدراسة ولا تجد في نفسها أي ميل للتمثيل، وبالتالي لم يخطر على بالها أبدا أنها ستصبح أعظم ممثلة في تاريخ فرنسا. وحين بدأت حياتها العملية على مسرح الكوميدي فرانسيز لم يمض عليها سوى أسابيع قليلة وطردت منه بعد مشادة مع نجمة الفرقة الأولى انتهت بصفعتين قويتين من الممثلة الشابة للنجمة الكبيرة.
مثل هذا السلوك العدواني كان كفيلا بالقضاء على المستقبل الفني لسارة برنار تماما، لكنها تماسكت بعد أن انتقلت إلى مسرح الأوديون وبتأثير موهبتها الدفينة شقت طريقها إلى المجد واشتعلت في داخلها جذوة النجاح والتألق، وبدأت جماهير المسرح في أوروبا كلها تطلب بالاسم هذه الفتاة الساحرة ذات الستة والعشرين ربيعاً. وترفع لها القبعة وتنحني إعجابا بفنها. وكما حدث مع غادة الكاميليا تعرفت سارة برنار على شاب أرستقراطي يدعى «دي لين» أمير بلجيكي راح يطاردها بحبه وأقام معها علاقة أثمرت ابنها الوحيد «موريس». وعندما سافر إلى بلجيكا ليتحدث مع أسرته بشأن الزواج منه ثارت ثائرة الأسرة وهددته بفقد اللقب والميراث إن تزوجها رسميا!.
في تلك اللحظة الدرامية تقمصت سارة دورها المفضل وتخلت عن حبيبها ظاهريا كما فعلت غادة الكاميليا، لكنها لم تسقط فريسة لمرض كمرجريت وإنما بحثت لنفسها عن نهاية مختلفة.. عن علاقات عاطفية تبعث في النفس السلوى، إلى أن تعرفت على ممثل يوناني وسيم يدعى «دامالا». كان فتى خبيرا بالنساء نجح في أن يحتل قلبها وحياتها ورغم تواضع موهبته استغلت سارة نفوذها لتصنع منه بطلا أمامها على خشبة المسرح ثم شريكا لها في الحياة. وبعد فترة وجيزة على الزواج اكتشفت سارة الوجه الآخر لدامالا، فهو مدمن ولا يكاد يفيق إلا إذا سرى هذا السم في دمه. كان إحساسه بنفسه متدنيا لأنه يدرك الحقيقة المرة، فلولا نقود ونفوذ زوجته ما أصبحت له قيمة. وتكشف للطرفين عدم التكافؤ بينهما بعد أن انزاحت سحابة الحب العمياء. انتهت فكرة الزواج إلى الأبد، واكتفت سارة برنار بأن تحيا لفنها ولصغيرها موريس. أما الرجال فإنها تتركهم على مسافة منها أو تتلاعب بهم كيف تشاء دون تورط حقيقي في علاقة. وواصلت نجاحها الفني المبهر لدرجة أنها كانت تلعب الأدوار النسائية والرجالية على السواء، مثل أدائها لدور هاملت الذي نال استحسانا منقطع النظير حتى ان ستارة المسرح رفعت وأسدلت سبعا وعشرين مرة والجمهور لا يتوقف عن التصفيق لها .
يقال إن الوصول إلى القمة سهل لكن الحفاظ عليها صعب، وفي مجال مثل الفن تلعب الحياة دراما من نوع آخر، ترفع أسماء وتهبط بأسماء في لمح البصر، وسارة برنار وجدت نفسها متربعة على عرش الفن دون الثلاثين، وأشد ما كانت تخشاه أن تأتي لحظة درامية تسقطها عن تلك المكانة. وبكل ما تستطيع من نفوذ ومن حيل شريرة، سعت دائما لكي تبقى نجمة فرنسا الأولى، لم تتورع على أن تشير على منافستها «ماري كولومبيه» بأن تدهن شعرها بدهان معين تسبب في سقوط شعرها أثرا بعد عين.
ولأن حرب الكواليس ضارية كأي حرب سارعت ماري بالانتقام منها بسلاح الشائعات وأصدرت عنها كتابا يسخر منها وينشر فضائحها علنا وبصورة مبالغة. ويكفي أن الكتاب وزع عشرة آلاف نسخة في ثلاثة أيام فقط، وهذه الأرقام تكفي تماما لقتل أي نجمة فنيا.
دفاعا عن مجدها، اندفعت سارة برنار مع صديقها الكاتب جان ريشيان وابنها موريس إلى مسكن ماري كولومبيه، كانت مثل عاصفة هوجاء في يدها سوط وفي الأخرى خنجر. واجتمع الجمهور لمشاهدة مسرحية هزلية عنيفة.. النجمة اللامعة سارة برنار في فضيحة على الملأ.. تمزق ملابس غريمتها وتقلب التحف وتجذب اللوحات وتلقي كل ما يصادفها أرضا مثل طوفان هادر. إن حرب الكواليس تحتاج إلى وسائل شريرة وسارة برنار تملك هذه الوسائل، خاصة بعد أن تحطمت حياتها الخاصة على المستوى الإنساني وفشلها في الارتباط مرتين.
وكانت أصعب معاركها الإعلامية حين سافرت إلى أمريكا وسط دعاية ضخمة واحتفالات مهيبة حتى أن الفرق الموسيقية في أمريكا كانت تعزف لها المارسيليز النشيد الوطني الفرنسي وبلغ سعر التذكرة في عروضها أربعين دولارا، وهو مبلغ خيالي قبل مائة عام! وفي مقابل الحفاوة والكرم الأمريكي دبرت حملة مضادة منظمة تفضح غرامياتها، وظهر كتاب في نيويورك يحكي عن أطفالها «الأربعة» الذين أنجبتهم دون زواج! وأنها طفلة لقيطة مجهولة الأب والهوية. إزاء هذه الهجمة حاولت سارة برنار قدر طاقتها أن تكون مهذبة في تفنيد الشائعات وأن تستدر عاطفة الجمهور الأمريكي الذي يصدق أي شيء طمعا في الحصول على أكبر قدر من المال.
وحين عادت إلى باريس ا كتشفت أن الحملة تطاردها من جديد، وأن غيابها الطويل نسبيا عن باريس صرف الجمهور عن الاهتمام بها فبدا غير متحمس لفنها هذا بالنسبة لها يعني الموت، والمفاجأة المؤلمة أنهم تجاهلوها في الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا 14/7/1881 ودعيت الممثلة «مدام أجار» بدلا منها لإلقاء النشيد الوطني أمام رئيس الجمهورية. ولأن سارة مدربة على المعارك القذرة أرسلت خطابا لزميلتها العزيزة بتوقيع عشيقها الضابط الذي يخدم في مكان بعيد، وفيه يتوسل إليها أن تأتي لزيارته لأنه يعاني سكرات الموت اثر سقوطه من فوق جواده. على الفور انطلقت مدام أجار وراء هذه الأكذوبة وأخلت خشبة المسرح لسارة برنار كي تستعيد مكانتها وتحظى بتصفيق وإعجاب النبلاء الذين لا يدرون شيئا عن خسة الموقف.ما أكثر ما ارتكبت من خطايا..
وما أجمل ما لعبت من أدوار! تلك هي غادة الكاميليا التي احتملت الوحدة والشيخوخة، ورغم أنها أصبحت قعيدة بعد بتر ساقها، استمرت في البحث عن لحظة تألق على خشبة المسرح. وفي آخر رحلاتها الخارجية إلى إسبانيا انتظرها في محطة القطار ما يزيد عن خمسة آلاف شخص وفرش الشباب معاطفهم تحت قدميها بينما يرفعها رجلان وهي على مقعدها لتحية الجمهور الذي خرج لرؤية أعظم فنانة في القرن التاسع عشر. رغم العجز والشيخوخة وأعوامها الخمس والسبعين جاءت إليهم تلعب دورها المفضل بانتظار أن يسدل الستار!
|
|
|
|
|