| الاخيــرة
والحكمة ضالة المؤمن، والحكمة تجارب الناس، تمت صياغتها في جملة بليغة، ومن تلك الحكم ما قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا يرجُونَّ أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلاَّ ذنبه، ولا يستحيي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه. واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس ذهب الجسد.
وقال أيضاً: من أراد الغنى بغير مال، والكثرة بلا عشيرة، فليتحول من ذلِّ المعصية إلى عز الطاعة، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
أما سلمان الفارسي فقد كتب إلى أبي الدرداء قائلا:
أما بعد فإنك لن تنال ما تريد إلا بترك ما تشتهي، ولن تنال ما تأمل إلاَّ بالصبر على ما تكره، فليكن كلامك ذكراً، وصحتك فكراً، ونظرك عبراً، فإن الدنيا تتقلب وبهجتها تتغير فلا تغتر بها، وليكن بيتك المسجد. والسلام.
ما أبلغه من كلام، وما أحسنه من معنى، وما أبدعه من سبك. فترك الشهوات سبيل للنجاح والنجاة، والصبر طريق للوصول إلى الأمل، والصبر ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر على معصية الله، وصبر على أقدار الله.
فعسى الله أن يلهمنا الصبر. فالدنيا تتغير بهجتها فويل لمن يغتر بها.
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان |
وقال آخر:
إذا ما الدهر جرَّ على أناس
حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا |
وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حفظك الله أن النفوس جبلت على أخذ ما أعطيت ومنع ما سئلت؛ ما حملها على مطية لا تبطىء إذا رُكبت، ولا تسبق إذا قُدِّمت؛ فإنما تحفظ النفوس على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب، فإذا استطعت أن يكون معك خوف المشفق وقناعة الراضي فافعل.
وقال حكيم لابنه: اتق الله ما استطعت، وإن قدرت أن تكون اليوم خيراً منك أمس، وغداً خيراً منك اليوم فافعل، وإياك والطمع، فإنه فقر حاضر. وعليك باليأس فإنك لن تيأس من شيء قط إلاَّ أغناك الله عنه. وإياك وما يعتذر منه، فإنك لن تعتذر من خير أبداً، وإذا عثر عاثر فاحمد الله الاَّ تكون هو. يا بني، خذ الخير من أهله، ودع الشر لأهله، وإذا قمت إلى صلاتك فصل صلاة مودع وأنت ترى ألا تصلي بعدها.
هذه المعاني الكبيرة التي تبين أن الدنيا لا تدوم على حال وأن مردها للتغير ثم الزوال، تجعل ذا اللب يحصر على ألا يشمت بغيره، فما كان لغيره كائن له.
والناس في الدنيا مفتونون، ولصاحبها محبون، وقيل لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: صف لنا الدنيا.
قال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عقاب؛ من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
لقد صدق علي كرم الله وجهه، فواقع الحال يظهر تمسك الإنسان بهذه الدنيا وافتنانه بها، فالغني لا يوقفه غناه عن اللهث وراءها حرصاً على المزيد من زخرفها وطمعاً في الاستمتاع بملذاتها، وهو في سعيه هذا إنما يجلب الشقاء لنفسه إن كان مفتوناً بها.
والفقير المحتاج إنما تراه في حزن دائم، وسعي مستمر، حرصاً على توفير لقمة عيش يومه، وهو لا يعلم إن كان سيجد لقمة غده أم لا.
والفقير غير القنوع الذي لديه قوت يومه وغده لكنه لا يملك سوى ذلك، تراه مهموماً حزيناً كثير التشكي، لا تهدأ له حال، ولا يتسع به مكان.
والفقير القنوع الذي لديه ما يكفيه وهو قانع بما لديه فإنما هو في عيش رغيد وخير مديد. أما الغني غير القنوع فهو قد حمل مشقة جمع الدنيا وأوزار حسابها، مع أنه لم يستمتع بما جمع، لأنه في سعي دائم وشقاء مستمر، وحزن لا يفارقه حيث لم يرض بما لديه ولن يقنعه سوى التراب.
قال حكيم يعظ قومه يا قوم: استبدلوا العواري بالهبات تحمدوا العقبى، واستقبلوا المصائب بالصبر تستحقوا النعمى، واستديموا الكرامة بالشكر تستوجبوا الزيادة، واعرفوا فضل البقاء في النعمة والغنى في السلامة قبل الفتنة الفاحشة، والمثنة البينة، وانتقال العمل وحلول الأجل، فإنما أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، ولن تنالوا نعمة إلاَّ بفراق أخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، ولا يحيا له أثر إلاَّ مات له أثر،
فأنتم أعوان الحقوق على أنفسكم، وفي معاشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يشغلكم شيء عنها، فأنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وستكونون أسلافاً بعد الأخلاف، بكل سبيل منكم صريع متعفر، وقائم ينتظر، فمن أي وجه تطلبون البقاء، وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئاً قط إلاَّ أسرع الكره في هدمه، ولا عقدا أمراً إلاَّ رجعا في نقضه.
وفي هذه المواعظ كلها أو جلها عبر لذي البصائر، فمن أراد أن يعتبر ففي تجارب الحياة متسع لذلك، ومن أراد خلاف ذلك فقد تبع هواه أو جعله مطية لإشباع لذة وقتية، قد يجدها في طرق الرشاد.
المرء في سلوكه وقراراته بين العقل والعاطفة، فإن غلَّب عقله على عاطفته وهواه كانت عاقبة أفضل، وسعادة أدوم، وإن أراد اتباع هواه وغلبت عاطفته على عقله فقد يشعر بسعادة وقتية لا تلبث أن تزول ليعود المرء أدراجه يبحث عن سعادة أخرى، أو قد يجر عليه اتباع هواه الكثير من المصائب، فيخسر ما كان يسعى إليه، فمن منا يعتبر ويدع شهواته، فقد حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره.
|
|
|
|
|