| مقـالات
تعتمل في الجسد الروسي تقرحات الماضي مما يؤدي للفشل في كل محاولة للانتقال الحضاري بسبب التركيبة السياسية المعقدة، وتمنطق العقيدة العسكرية التي شاخت، ومنذ انهيار عرش الامبراطورية السوفيتية في بداية التسعينيات اسدل الستار عن الهياكل الصدئة في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الروسي وطفت للسطح القضية المركزية قضية الهوية التي ساهمت في انسلاخ الكثير من الجمهوريات السابقة عن الجسد الروسي. وما زال درس التاريخ الروسي هو أن مركزية السلطة هي الشرط الرئيسي للاصلاح الاجتماعي والاقتصادي.
أحداث الحادي عشر من سبتمبر ورياح الارهاب اقتلعت فرص السلام من جذورها وجعلت شبح الارهاب والتوجس خيفة منها يجثم على صدر العالم منبئاً بعصر أمني متشدد يفرض معاييره صولجان شرطي العالم الحديث الولايات المتحدة الأمريكية وذلك في اطار الحملة التي تشنها أمريكا ضد عولمة الارهاب. طغى الاهتمام بالحرب المستعرة في افغانستان على حرب القوقاز وتحزب العالم ضد الأصولية والتطرف الإسلامي في العالم مما جعل القضية الشيشانية تخسر أسهماً كبيرة في رصيدها بين كونها قضية حق قومي مشروع وانتهاك روسيا فيها لممارسات حقوق الإنسان أمام العالم ولا سيما الدول الأوروبية من جهة وبين صبغتها بارهاب وتطرف اسلامي يهدد كيان الاتحاد الروسي بكوكتيل أعراقه وقومياته.
وفي حرب روسيا الأولى مع الشيشان عام 1994م أعلنت روسيا أن عمليتها في الشيشان لن تستمر أكثر من أسبوع واستمرت الحرب سنتين لتنتهي بالاعتراف باستقلالية الشيشان وشرعية حكومة مسخادوف المنتخبة من قبل الشعب. ومن ثم عاود الروس الكرة في عام 1999م لتصفية الحسابات ونقض المعاهدات.
إن التعتيم الإعلامي الذي رافق الأحداث الجارية في الشيشان بعدم سماح الروس للصحافة بالدخول للوقوف على حقيقة الأمور دليل واضح أن الثمن الذي تدفعه القوات الروسية باهظ جداً ففي حربها مع الشيشان بين عامي 1994 1996م كانت كل تصريحات الروس حول عدد القتلى متضاربة وزائفة بينما ما زالت بعض المصادر الشيشانية تؤكد تكبيد الروس لأكثر من 80 ألف قتيل. واذا كان الروس يتفادون الاشتباك المباشر مع القوات الشيشانية فهذا يعود لعدة أسباب أهمها أن القوات الشيشانية متمرسة في حرب المدن ومن صالحها أن تفعل ذلك لقلة عدد مقاتليها وعتادها ولمعرفتها الدقيقة بتضاريس أرضها وكيفية تنفيذ الكر والفر والسبب الأقوى من ذلك هو الاستعداد الكامل للمحاربين الشيشان للتضحية حتى الاستشهاد على عكس الجنود الروس الذين لا يملكون خبرة كافية وليسوا مستعدين للموت في أرض غريبة عنهم. والحكومة الروسية ترفع معنويات مقاتليها بعرض رواتب مغرية بالنسبة لهم للقتال وقد كانت تشتري حواجز الروس من قبل الشيشانيين بالمال في حرب عام 1994 1996م. ان سياسة محاصرة وتفريغ المدن من سكانها أيضاً لم يجد فقد التجأ المقاتلون الشيشان للجبال لشن حرب عصابات كبدت روسيا في الحرب الثانية ولحد الآن ما يزيد عن 15000 قتيل. إن فواتير الحرب باهظة التكاليف ووقودها المال والناس ونتائجها الخراب والدمار والانهيار الاقتصادي ومن يطل الآن على غروزني «تعني مدينة الأحزان بالروسية » سيلقيها خاوية على عروشها وأزقتها تروي قصة أحزانها وأتراحها ومن يسلك طريق القوقاز يمسي في طريق القبور ويسمع صدى الحرب ودورة الحقد والصراع، والتي تمتد لقرنين من الزمان بين الجنوب المسلم والشمال الأرثوذوكسي من عصر القياصرة إلى عصر الشيوعيين وانتهاء بعصر البروليتاريا وفي اطلالة على تكلفة فاتورة الحروب الطاحنة في أفغانستان والتي تدور رحاها منذ عشرين عاماً نجدها قد كلفت 40 بليون دولار وسبعة ملايين لاجئ ومليونين ونصف المليون قتيل وعددا من الألغام الأرضية يفوق عدد السكان تقدر بحوالي 15 مليون لغم أرضي ضد الأفراد يموت في انفجارها كل شهر أربعون من الأطفال.
ذكر مرة بوريس يلتسين بوصفه الشيشانيين «بالكلاب المسعورة التي لابد من قتلها» وقال فيكتور كريمينيوك تعليقاً على الحرب في الشيشان وتشكيكاً في الوضعية القانونية لحرب التحرير التي يخوضها الشيشان ضد الروس «روسيا تملك خياراً واحداً في الشيشان.. الانتصار» وكما نوهت في مقالاتي السابقة: ان قضية القوقاز هي ببساطة قضية صراع بين قوميتين لم يكتب لهما التعايش لأن أحد طرفيها ولا سيما الروس قد طغت باستعمال مبدأ فرض التعايش بالقوة. وفي ذكر الجريمة التاريخية التي ارتكبت بحق القفقاسيين فان ما حدث في الماضي من حروب وقتل وتهجير وحشي لما يزيد عن مليون ونصف شركسي إلى مناطق الحكم العثماني في نهاية القرن التاسع عشر عفى التاريخ عنها وجعل المنطقة كلها ترقد على جمار الحقد والثأر المقيت وكل ذلك لتحقيق المصلحة الذاتية لروسيا والآن وبعد أن زادت أهمية المنطقة استراتيجيا ًواقتصادياً فكيف سيتخلى عنها الروس ولا سيما أننا نلحظ الاهتمام المتزايد للدول الصناعية وأمريكا وايران بنفط المنطقة وكنوزها الدفينة وها نحن نلحظ تدشين روسيا مؤخراً خط الأنابيب الجديد لتصدير نفط بحر قزوين الذي يمثل استثمارات بقيمة 26 بليون دولار وكما أن التدشين تم بمباركة عراب العالم الولايات المتحدة الأمريكية وكما أعلن وزير الطاقة الروسية أن وزير الطاقة الأمريكي سبنسر ابراهام يقوم بزيارة روسيا لبحث أوضاع الأسواق النفطية العالمية والمشاركة في حفل التدشين للخط الجديد في أنابا قرب مرفأ نوفوروسيسك الذي يصل كازاخستان بالساحل الروسي على البحر الأسود. ويكفينا العلم أن طول خط الأنابيب 1500 كم وهو ينقل نفط حقل عملاق في تنغيز و تملك شركة شيفرون الأمريكية 50% منه غرب كازاخستان وتصل طاقته الانتاجية الأساسية إلى 28 مليون طن سنوياً ويمكن رفعه لاحقاً إلى 67 مليونا. وفي نظرة على مجمل التطورات والأحداث الجارية في منطقة آسيا الوسطى والحرب على أفغانستان نجد أنها حرب مصالح الرابح الأكبر فيها بعد الولايات المتحدة هي روسيا فأمريكا وبتحقيق مآربها بكسر شوكة الارهاب العالمي باقتلاع منظمة القاعدة من جذورها «ولا ننس أن أمريكا كان لها اليد الأكبر في دعم مثل هذه المنظمات ونشوئها لمقارعة الوجود السوفيتي وبأي ثمن» واليوم أعداء الأمس هم أصدقاء اليوم والعكس صحيح. والاستفادة من زرع قواعدها في المنطقة وحماية لمصالحها المستقبلية والتي أتت أكلها كبداية في استثمارها بحقول بحر قزوين و الذي سوف ينوع مصادر البترول العالمية وينأى بمصالح الأمريكان عن تأرجح أسواق النفط العالمية نتيجة التخوف من تأثير توتر منطقة الشرق الأوسط وانعكاساتها السلبية على السوق النفطي العالمي.
لقد ساعدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر على نجاح أمريكا في سد فجوة الخلافات مع روسيا بعد فتور في العلاقات تمثل في مقارعة الدب الروسي لمشروع الدرع الصاروخي الأمريكي واصرار الادارة الأمريكية على المضي فيه مع عزمها الغاء معاهدة الصواريخ المضادة سواء برضى الروس أم بغير رضاهم، ورغم أن الروس في البداية قد اتخذوا موقفاً حذرا من الحملة العسكرية على أفغانستان بقيادة أمريكا الا أن الاغراءات كانت أكبر من المخاوف في هتك ستر الحزام الأمني الخلفي للروس بالسماح للأمريكان باستخدام القواعد العسكرية لأوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان ومن مغبة احراج روسيا أمام دول صديقة كالعراق وذلك لنية أمريكا بتوسيع رقعة التطهير من دنس الارهاب لتشمل دولاً صديقة لروسيا كالعراق، ورغم كل هذه المخاوف كانت الفرصة التاريخية لبوتين التي استغلها بدهاء الثعالب من رجال الاستخبارات وهو خريج أروقتها، فسمح للأمريكان باستغلال القواعد التي ستسمح لبروز الدور الروسي كضامن لأمن هذه البلدان من خطر المد الارهابي الإسلامي التي تزعم الولايات المتحدة تهديده لكل المنطقة وتحول الموقف الروسي أملاً في الحصول على المكاسب ولا سيما في قضية الشيشان بالحصول على الضوء الأخضر والدعم والتأييد من أوربا وأمريكا لمنع أي تدخل في الشيشان على أساس قمع الثورة الانفصالية والقضاء على زمرة الانفصاليين الارهابيين فيها وقد أومأ المستشار الألماني غير هارد شرودر لبوتين بأن روسيا يمكنها أن تفعل ما يحلو لها في الشيشان في اطار حربها ضد الارهاب ولا سيما بعد أن اعترف الرئيس الأمريكي بوش بوجود علاقة تربط المقاتلين الشيشانيين بتنظيم القاعدة و بذلك خسرت القضية الشيشانية معركتها السياسية أمام حلف الأطلنطي بتورطها في الارهاب، وما تطمح إليه روسيا في جملة تنازلاتها ووعود الغرب هو اسقاط ديونها الخارجية للغرب البالغة 140 بليون دولار أمريكي وتعبيد الطرق لنضمامها لمنظمة التجارة العالمية واعتراف واشنطن بمصالح روسيا في دول آسيا الوسطى والتمهيد لقبولها في حلف الأطلنطي كعضو كامل أو مد جسور العلاقات الموطدة مع الحلف لتحييد المخاطر العسكرية المحتملة في حال توسيع الحلف ليضم دولاً أخرى في شرق أوروبا. كما أن التقارب الأمريكي الروسي حدا بالأمريكان بقبول النصيحة الروسية من الكرملين الرافضة لتمثيل طالبان في الحكومة المستقبلية لافغانستان. ولا سيما أن روسيا بعلاقتها الوطيدة مع قوات التحالف الشمالية ودعمها لها بالعتاد والمال جعل منها ورقة ضغط تزيد من فرص المكاسب المتوقعة للروس. التقى ممثل الكرملين فيكتور كازانتسيف قبل أيام في مطار موسكو الدولي أحمد زكاييف ممثل الرئيس الشيشاني الاستقلالي اصلان مسعدوف بيد أن موسكو قللت من أهمية هذا اللقاء قائلة أنه لا يتعلق مطلقاً باجراء مفاوضات حول الهيكلية السياسية للشيشانيين ولكن فقط للتأكد من أن المتمردين الشيشان يسلمون اسلحتهم. ونحن نأمل من بارقة السلام هذه ان تحقن الدماء في منطقة الشيشان وينزع فتيل التوتر من خطر اشتعال المنطقة ولا سيما لاهميتها الاستراتيجية والاقتصادية المتزايدة وتنصب الجهود في اعادة اعمار المنطقة والذي سيكلف البلايين من الدولارات والسنوات ولتنعم أطفال المنطقة بمستقبل واعد يقيها من ويلات التشرد وطاحونة الحرب الفتاكة بكل الطاقات الحيوية.
|
|
|
|
|