| محليــات
نوَّارة...
تجيئين في الوقت الصَّعب...
حين تحطُّ رحالها تلك الأحلام...، فوق أكفِّ الزمن...، وأذكرُ أنَّكِ كنتِ كثيراً ما تحدِّثينني تحت ظلال شجرة السنديان، عن الأحلام التي تحطُّ فوق أكفِّ الزمن...
كنتِ تشفقين عليَّ منها...، لا أنسى أبداً، ما قلتِ ذات مرة، ثمَّ نهضتِ كي تستري دمعتكِ خلف فرعٍ ثريٍّ من فروع السنديان...، واجهْتُكِ بطفولتي أمدُّ إليكِ يدي، أمسح دمعتكِ...، لحظتها، أسمعُ صوتكِ اللَّحظة، وأنتِ تقولين:
يا صغيرتي، أخشى عليكِ من نوافذ البراءة...، كي لا تخدشكِ أسنَّةُ الأحلام، وهي تحفر لرؤوسها فوق أكفِّ الزمن...!
يا نوَّارة لم أفهم في تلك اللَّحظة معانيكِ...، وابتسمتِ، وأنتِ تمسحين على رأسي، وتهمسين لي: هذا ما أريدكِ ألاَّ تفهميه...!
لكنَّني الآن أفهم...
ولقد أدركتُ سرَّ خوفكِ...، لأنَّني قد أصابني من وخز الأحلام ما أصابني...،
ولقد عرفتِ أنتِ، ما عرفتُ أنا الآن...
لكنَّكِ خبُرْتِ الحياة قبلي...، وإنِّي، بكلَّ الصدق، غبيَّةٌ، لم أدركها إلاَّ وقد قربت الراحلة على مشارف المحطة...، من نهاية الاتجاه...
يا نوَّارة...
تذكَّرتُ عندما قلتِ لي: من يجرحُكِ مرةً...، فإنَّه قادرٌ على أن يجرحكِ دوماً، تماماً كما أنَّ من لا تعرفين عنوانه...، لن يصلكِ أبداً...، تماماً كما أنَّ الذي يقطع عليكِ القول، يمكن أن يقطع عليكِ الدرب!
وفوق أكفِّ الحياة، هناك يا نوَّارة من يجرح، ومن تجهلين، ومن لا تعرفين له عنواناً...
كيف يكون ذلك عند من يكونون الأقرب، وهم الأبعد...، هذا ما تُنبئ به كلَّ يوم... نشرات الأنباء...، في واقع الحياة...، ووخز أسنَّة الأحلام، ينخر في الأحساس...، نخر التروس النَّارية...، تلك التي يشحذها الاحساس بالألم،
ذلك المنبثق عن الاحساس بالظُّلم...
تعلَّمتُ منكِ تحت شجرة السنديان أبجديات...
الآن يا نوَّارة بدأتُ فقط الآن أوظِّفها في كلمات كي يتمَّ التفاهم بيني وبين الحياة واقعاً، لا خيالاً كما كنتُ...
أدركتُ الآن أنَّني بحاجة لأن أُحاط بمتاريس كي أبقى في منأى عن الوخز، وهذا ما كنتِ تشفقين عليَّ منه...، لأنَّكِ وحدكِ تعلمين أنَّني لا أقوى عليه...،
كيف أحتمي من أسنَّة الأحلام؟...
كيف أغتسل من وخزها؟....
كيف لا أجهل قراءات أبجديات السنديان؟...
هذا ما بقي لي كي أتمَّه في تجربة الحياة...
يا نوَّارة...
مساء البارحة مررتُ بسنديانتنا... عند موقع بيتنا الذي كان...
لا أدري لماذا توقَّفتُ عندها...، ولماذا ذهبتُ إليها أخاطبها كما كنتُ طفلةً، بعد أن فُضَّ عنها السور، وذهبنا عنها...، وبقيتْ صامدةً، في وجه التراب، والريح، والزمن....، لكنَّني وجدتُها قد شاخت...، وطالها من الزمن ما جعلها لاتبدو كما كانت، لم يعد فيها رُواء، ولم تعد خضراء، كلحتْ كما كلح كلٌّ شيء...، كانت في مهابة صمتٍ، يجلِّلها شيءٌ من الأسى، بل الألم، بل الحزن، بل الفجيعة...،
لم ترتهج لوجودي كما كانت... إذ غادرناها... ولم تعد في بقعة لنا...؟
غريبة سنديانتنا غريبة...
ربَّتُّ على شموخها الصامد...
مسحتُ دمعتي...، ومضيتُ لا أدري أيَّ شيء يعتلج في داخلي، لم أقو حتى على ترجمته...، قرَّرتُ ألاَّ أقرأ أبجدياتها...، ذلك لأنَّني اختصرتُ في تلك اللَّحظة كامل الديوان الذي كنتِ تعلمينني حروفه...
يا نوَّارة...
هلاَّ يكون لي من حضوركِ الأبدي...، ما يحفظني من متاهات الذي يكون؟..
والحياة تبدو لي في وجوهٍ لم أخبرها من قبل؟
إنَّكِ هنا...
الحصن والمتراس...
وإنَّها هناك...، الشُّموخ ، والذكرى...
وعند موقع انبثاق جذرها، تترامى حروف الديوان...، وأبجديات الدروس...، ووحدي من يلتقطها...، ووحدي من يتعلم يا نوَّارة كما تعلمين.
|
|
|
|
|