|
| الثقافية
هناك ثقافات تقوم رؤاها ومواقفها على التفاعل مع الحياة والواقع المعاش وجدلياتها المادية والروحية والاجتماعية والسياسية، وهناك ثقافات تعيش في أبراجها العاجية الماضوية أو المستقبلية منزوية خوفاً أو ترفُّعاً أو عجزاً، وأيّاً كان سبب هذا الانزواء فإنه لا يعفيها ولا يمنحها حصانة من المساءلة وإثارة الشكوك حول انتمائها الحقيقي إلى الثقافة الإنسانية.
الثقافات الواقعية المشاركة في الحياة والواقع وجدلياتها يحمل الأصيل والجادّ منها أبعاداً مضمونية في انعكاس صادق لبحث الإنسان عن وسائل مثاقفة مرنة وحيّة ومتطورة تعبّر عن فكره ورؤيته، فيما لا تعكس الثقافات البرج عاجية المنزوية والانهزامية سوى فراغ إنساني هائل يفضح ضحالتها وفقرها الثقافي وانعدام احساسها بمسؤوليتها تجاه الكلمة والإنسان الذي وجدت الكلمة من أجله.الثقافات الواقعية تحاول اكتناه الظواهر والأحداث والأشياء من الداخل لتصل بها ومعها إلى تفاعل يتجاوز مجرد الوقوف عند مظاهرها الخارجية بينما تكتفي الثقافات البرج عاجية بوصف الأشياء أو محاولة تفسيرها على الأقل وعبر دوائر ذاتية وأطر حلمية غائمة وسطحية المقاصد والأهداف. كما تحمل الثقافات الواقعية ايحاءات ثرّة الدلالات وذات شمولية متميزة عن الذاتية والفردية وتتجاوزهما دون تغييب للأصالة الفردية التي تجسّدت هذه الثقافات بواسطتها والتي تدرك تماما ما هيتها وأبعادها وما تطمح إليه من أهداف إنسانية فيما هي تنطلق من هذه الماهية وهذه الأبعاد وتتأسس عليها وتحمل في الآن نفسه وعياً بالانتماء الإنساني دون المساس بالشخصية المستقلة لمنتج هذه الثقافة وعوالمه الخاصة وميزاته الفردية التي تميزه عن بقية منتجاتها.
الثقافات الواقعية تمزج في وحدتها العضوية المتماسكة عدداً كبيراً من العناصر المختلفة التي تدور في فضاءات الحاضر وتمارس وجودها في جدلياته مستثمرة كافة هذه العناصر في إنتاج مادة ثقافية تنزع إلى الاكتمال في ذاتها وإلى الاتحاد والاكتمال مع الإنسان الذي تتوجه إليه وهي تشاركه هموم وقضايا وجوده المعاصر في زمن تاريخي وظروف مادية واجتماعية تجمعهما وتخلق بينهما تواصلاً حميماً، بينما لا تستطيع الثقافات البرج عاجية سوى الدوران في غرفها المعزولة الضيقة وفي إطار عنصر واحد قد يكون مستهلكاً ومكرراً وقد يكون ذاتياً لا يتجاوز الفرد المنعزل ورؤاه المحدودة وفضائه المغلق على ذاته أو أحلامه هو فقط فيما تقوم بناها على الانقطاع التام مع هذا الإنسان ومما يكشف في هذه الثقافات البرج عاجية عيوباً في خطابها وتناقضاً يجسّد ما تقوم عليه من أوهام أو سطحيات جمالية وفساد وأمراض وسوء نيّات ثقافية وشخصية أيضاً.معظم الثقافات البرج عاجية سطحية وخفيفة وتشبه الكتابة الصحفية اليومية في باب الطرائف، ودون عمق معرفي ناضج ثقافياً وادراكياً ودون امتلاك لأدوات إنتاج ثقافية خبيرة أو تخصص مبنيٍّ على وضوح الرؤية والموقف والأهداف، ودون رؤى صادمة أو جديدة أو وعي يستمد مغايرته من معايشته الداخلية القوية لمحيط وجود وظروف زمانه ومكانه وجدلياتها وقضاياها.
ومعظم هذه الثقافات البرج عاجية لا تملك خصائص وملامح مميزة مشتركة وأصيلة ولا يمكن الإيمان بامتلاكها لأحاسيس إنسانية حيّة ونشطة ومتفاعلة مع الآخرين ولا يمكن التدليل على امتلاك رؤى ومواقف واضحة بخصوص ماذا تريد وما وسائلها لتحقيق ما تريد، وبعضها يقوم على العبث اللفظي والتقني والجمالي الظاهري ودون مرجعية ثقافية ولو إلى الحدّ الأدنى الذي يمنحها القدرة على الرؤية والوقوف والتحديق في المآزق الإنسانية المعاصرة مثلما تقوم شطحاتها على قفزات غير محسوبة وغير متنامية ومتكاملة ومنها ما يؤسس نفسه على الانبهار والتقليد الأعمى فقط لكل ما يقوله الآخرون فيما تفتقد الصدق والبراءة وعلى العكس من الثقافات الواقعية التي تقوم على المثاقفة الواعية العارفة بوجهتها دون انفعال أو صخب أو تشكيك في ذكاء الآخرين ووعيهم وثقافتهم وذائقتهم أو محاولة استلابهم.
|
|
|
|
|
