| الثقافية
شهدت بداية القرن. نظريتين اعتبرتا بمثابة انقلاب تام على قوانين «نيوتن» التي هيمنت على علم الفيزياء، منذ أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، أولاهما نظرية الكمومية «الكم» لماكس بلانك المتعلقة بالفيزياء الذرية وجسيمات الذرة، والثانية النظرية النسبية «بشقيها الخاصة، والعامة»، لمن اعتبره المهتمون بالعلم، في نهاية القرن، رجل بلا منازع. ذلك هو العبقري الفذ «ألبرت أينشتاين». نظريته هي «الأهم، لكون الحديث يدور حول أثر الفيزياء، على علوم الكون وفك شفراته.
قلبت تلك النظرية قوانين «نيوتن» رأسا على عقب، فقد نصت على ان الأجسام تنكمش كلما ازدادت سرعتها، فيما كتلتها «وليس وزنها المرتبط بجاذبية الأرض، ان قيس عليها»، تتضاعف بازدياد سرعتها حتى تصل الى السرعة القصوى، وهي سرعة الضوء «التي لا يمكن تخطيها»، لأنها حينذاك تنكمش حجما الى الصفر، فيما تزداد كتلتها الى أن تصبح لا نهائية!.. تلك القوانين ضئيلة الوضوح في حالة أجسام كبيرة تسير بسرعة بطيئة نسبيا، فحتى صاروخ بطول مائة متر، ينطلق بسرعة «40» ألف كم/ ساعة، لا ينكمش طوله سوى بمقدار 1 بالمائة من المليمتر(8)، لكن تلك القوانين واضحة التأثير على الجسيمات الدقيقة، فقد ثبت صحتها حين استطاع معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا عام 1952م تسريع الكترون وصل به الى سرعة، لا تقل عن سرعة الضوء، إلا بعشر ميل في الثانية فقط، فزادت كتلة الالكترون حوالي 900 ضعف(9)..!
ثالث القوانين يبدو كأنه يناقض، الثابت الوحيد الذي بنيت عليه النظرية النسبية ذاتها!.. فمن المعروف ان السرعة النسبية للأجسام، تطرح حين يسيران في اتجاه واحد، وتجمع حين يسيران في اتجاهين متعاكسين، ولعل أقرب مثال، هو تفاوت شدة الصدمة ما بين سيارتين تسيران في اتجاه واحد، وقوتها في حالة اصطدامها وجها لوجه. فإذا ما فرض ان جسمين يسيران باتجاهين متعاكسين سرعة كل منهما ثلاثة أرباع سرعة الضوء، فإن سرعتهما النسبية لبعضهما البعض ستكون مجموعة السرعتين وهو مرة ونصف سرعة الضوء!.. وهو ما يتناقض حتميا مع الفرضية الأساسية، بأن سرعة الضوء، يستحيل تخطيها!.
ما قلب قوانين نيوتن، كان قانون النسبية الرابع، الذي أوجد العلاقة ما بين الطاقة والكتلة، بأن الأولى «الطاقة» تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، فيما كانت تنص قوانين نيوتن على ان الطاقة والكتلة منفصلتان وكلاهما، لا يفنى ولا يستحدث، وإنما تتغيران من حال الى حال!.. ذلك القانون الذي نص على ان طاقة هائلة تتولد من كتلة صغيرة «فالطالة الناجمة تساوي حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء البالغة 300 ألف كم/ الثانية» أساس اختراع القنابل الذرية، الهائلة التدمير، ومحطات الطاقة والغواصات الذرية!.
أما القانون الأخير، فهو الخاص بالبعد الرابع، بعد ان كانت كل القياسات متعلقة بأبعاد المكان من طول وارتفاع وعرض، فأتى «اينشتاين» ليضيف الزمن!.. فالزمن أيضا يتأثر بالسرعة، فهو يتباطأ كلما زادت سرعة الجسم، وقد ثبت صحة هذا الفرض، حين تباطأت ساعة في منتهى الدقة على متن طائرة فائقة السرعة، عن مثيلتها، على الأرض(10)، ولكن الأرض ذاتها، ليست ثابتة بل هي منطلقة في مدارها حول الشمس، بكل ما عليها من حجر وبشر، بسرعة 30 كيلومترا في الثانية، أو ما يعادلها 108000 كيلومتر في الساعة، دون أن نشعر بحركتها، لثبات سرعتها، تماما مثلما لا يشعر راكب الطائرة بحركتها، وهي تحلق بسرعتها الفائقة!.. لذا فإن كل القياسات نسبية، وليست مطلقة!.. لكن كل تلك العبقرية والشهرة، لم تحل دون ارتكابه هفوة كبرى!.. فرغم ان نظريته النسبية العامة، تنبأت بأن الكون ليس ساكنا، بل هو في حالة توسع، إلا أن طبيعته البشرية، المماثلة لكل البشر، في تمسكهم بما شبوا واعتادوا عليه من ثوابت، حتى وان فندتها حقائق مستجدة، فكانت ثوابته المتوارثة هي الغالبة، حين رفض تصديق، ما تقول نظريته، فأضاف ثابتا من عنده لمعادلاته، كي تستقيم مع معتقداته، السائدة آنذاك بين العامة والعلماء، على حد سواء، بأن الكون ثابت لا يتغير، فكانت تلك كبوته العظمى، كما اعترف لاحقا، بنفسه حينما أثبت عالم فلكي شاب، أن الكون في توسع مستمر!..
* * *
كان ذلك الشاب هو «إدوين هابل» الذي أطلق اسمه على أول مسبار «تليسكوب» أرسل الى الفضاء الخارجي في مدار حول الأرض، قبل بضع سنوات. شاب أمريكي، اجتماعي، محب للحياة، عاشق للحفلات، إلا أنه مغرم بعلوم الفضاء، زاد من جاذبيته لكنة انجليزية محببة، التقطها خلال دراسته في جامعة «أوكسفورد» الشهيرة. ساقته الأقدار ليعمل في مرصد «ماونت ويلسون» على قمة جبل ويلسون، المطل على سماء «لوس أنجلس» الصافية آنذاك!.. كان ذلك المرصد أكبر مرصد في العالم في حينه، حيث ما كان بالامكان نقل عدساته ومعداته الميكانيكية، إلا مفككة على ظهور البغال. فمن خلال العدسات الضخمة لذلك المرصد المتطور، عمل «هابل» على قياس المسافات السحيقة للمجرات القصوى «باستخدام تقنية أنزياح الطيف الأحمر للضوء».
ولكنه لاحظ لدهشته بعد قياسات متكررة لذات المجرات، أنها تبتعد بمرور الوقت، بل وكلما بعدت مسافات المجرات، كانت سرعة ابتعادها أكثر عن تلك الأقرب الى الأرض!..
فأعلن عام 1929م، ببرهان لا يقبل الجدل أو الطعن أن الكون، ليس ثابتا، وإنما في توسع دائم.. ولكن ذلك الاثبات، قاد على لغز آخر!.. فإن كان الكون في توسع، فلابد وأنه كان في الماضي أصغر مما هو عليه الآن، وصولا الى زمن، لم يكن فيه الكون، بكل ما يحويه من مجرات وسديم سوى نقطة واحدة!.. ذلك ما قاد الى نظرية الانفجار الكبير ( Big Bang)، نظرية هلل لها العلماء والاعلام وكبر!.. ولكن الى حين! فبعدما احتسب الزمن، منذ ذلك الانفجار وحتى وقتنا الحاضر، فكان ما بين «1215» بليون سنة، اكتشفت مجرات ونجوم عملاقة يزيد عمرها عن ذلك التاريخ!.. فكيف يكون الوليد أكبر سناً من والدته؟،، ما زال ذلك الدهليز، يقود الى دهاليز، يجوبها علماء الفضاء والفيزياء، دون التوصل لجواب حاسم.. ولكن ذلك لم يكن لغزاً آخر، لا أخير، فقد تبعته ألغاز أخرى!..
* * *
ما كادت عشر سنوات تمر، حتى برز لغز جديد!.. ففي عام «1939م»، كشف عالم الفيزياء «روبرت أبنهايمر»، بأن النجوم «الشموس»، التي تزيد كتلتها عن ضعف كتلة شمسنا، ما أن تستنفذ وقودها النووي، الذي كان بما يبثه من طاقة، هو المقاوم لجاذبية كتلتها الضخمة، حتى تنهار، تحت شدة تلك الجاذبية الذاتية، الى حد الانخساف لحجم بالغ الصغر، ذي كثافة هائلة!.. شيء من الخيال قد يقرب، ما ينجم عن تلك الجاذبية من صورة، قد تفوق حتى الخيال!. فإن أمكن تصور عاصمة، كالرياض، أو صنعاء، أو حتى القاهرة بملايينها العشرة، تنسحق حجما الى مالا يزيد عن رأس دبوس!.. بل والكرة الأرضية بكل ما عليها تنكمش، فتنضغط الى مالا يزيد عن حجم علبة ثقاب، فقد أوشك الخيال، لأن يصل لما هو مقصود!.. فما يصل وزنه الى مليار طن، من ذلك النجم المنسحق، لن يزيد قطره عن جزء من الترليون من المليمتر(11)!.. كثافة رهيبة، ينجم عنها جاذبية هائلة، لا يستطيع الفكاك منها، حتى الضوء!.. فلا عجب ان أطلق عليه مسمى «الثقوب السوداء»، «Black Holes»!.
ولكن ذلك الاكتشاف تزامن مع قيام الحرب العالمية الثانية، فاستدعي الفيزيائي «أوينهايمر» لينضم الى فريق تجارب وصنع القنبلة الذرية، فلم يجذب انتباه العلماء، حتى الستينيات، حين أطلق على تلك الظاهرة المحيرة، عالم الفيزياء الأمريكي «جون ويلر» عام «1967م»، ذلك المسمى الجذاب، لا لمخيلة الصحافة والعامة، بل وحتى لأبحاث العلماء. ولكن تلك الأبحاث زادت الطين بلة، إذ هي لم تعصف بثوابت، طالما اعتبر، من المستحيل تخطيها، بل وفتحت الأبواب لمزيد من الألغاز!..
«ستيفن هوكنج»، يعتبره الكثيرون اسطورة العصر!.. إذ لم تكتب له الحياة، بعدما أصيب، وهو شاب، بمرض شللي عضال، لا علاج له، أو شفاء منه، توقع له الأطباء ألا يعيش أكثر من بضع سنوات، فمد الله في عمره، بعد ذلك، لما يقرب من أربعين عاما، لحد الآن.. تزوج خلالها مرتين، وأنجب طفلين، ولله في خلقه شؤون!.. وإنما عوضه الله سبحانه وتعالى عن عاهته، بنبوغ فذ، لم يتربع معه، على كرسي «اسحاق نيوتن»، في الرياضيات، أو يؤلف كتاباً عن الكون (12)، حطم أرقام المبيعات، فدخل سجل «جينيس» للأرقام القياسية، بعدما فاقت مبيعاته حول العالم عشرة ملايين نسخة، ولا زال مطلوباً!.. بل لكونه حتى اليوم، يعتبر من أكثر العلماء عبقرية في علوم الفضاء والفيزياء الفلكية!.
ذلك العالم الفذ، انكب على تلك الظاهرة المحيرة، ليخرج بعد دراسة استغرقت بضع سنوات «من عام 1970م وحتى 1974م»، بنتيجة أدهشته، وأثارت ضجة، ما بعدها ضجة، حين رفضها معظم زملائه العلماء، ليعودوا بعدها مقرين بصحة نتائجه، معترفين بخطئهم!..
كانت النتيجة التي توصل اليها، هي ان «الثقوب السوداء» ليست تامة السواد، فهي تنثقب سيلاً من الاشعاعات والجسيمات من قطبيها!.. ولكن كيف يتسنى لها الافلات من تلك الجاذبية، إن كان الضوء بسرعته التي لا يمكن تخطيها لا يتمكن من الافلات؟.. فكان جوابه، كما سطره في كتابه اللاحق «الثقوب السوداء والأكوان الوليدة»، ان تلك الاشعاعات والجسيمات، تكون سرعتها، أسرع من الضوء(13)!.. ذلك كان السبب الأساسي في رفض العلماء الأخرين، لكونه ينسف، ما جاء في النظرية النسبية المبنية على استحالة تخطي سرعة الضوء، والتي تعتبر قاعدة الانطلاق، لمعظم ما بني عليها من نظريات في فيزياء الفضاء!..
أما حين سئل عن مصير المادة التي يلتهمها ذلك الثقب الأسود الجبار، والمتزايد على مر الزمان، فقد أجاب في مقابلة أجرتها معه محطة البي بي سي في برنامج علمي «عام 1922م»، بقوله بكل صراحة وحيرة واقرار:«لا أحد يدري»!.. وكأن تلك الحيرة لا تكفي، فقد اكتشف العلماء أن كل ما في الكون من مجرات وسديم وأجرام، بكل ما تحتويه من مواد وكتل بلايين النجوم والكواكب والأقمار، لا تكفي جاذبيتها، لما عليه الكون من استقرار!.. بل ان مجموع كتلها لا تشكل سوى ما بين «110» بالمائة، من الكتل المطلوبة علمياً وحسابياً، فافترضوا وجود مادة مظلمة، لا مرئية، تشكل ما بين «9099» بالمائة من مكونات الكون!.. أما خواصها وكنهها، فلا يزال لغزاً يحير القوم!.
بل إن القرن المنصرم أبى أن يودع علماء البشر، دون لغز يقصم الظهر!.. فقد اكتشف العلماء مؤخرا ان الكون لا يتوسع فحسب، بل ان توسعه يتسارع، مما يتطلب قوة طاقة جبارة، وهو ليس ما يتناقض مع كل ما سبق عن أصل الفضاء وتناقص قوة انفجاره الأولى، بل ويطرح لغزاً عن مصدر تلك القوة الجبارة!.. لا زالت الأجوبة حائرة متضاربة، ففي عدد أخير من مجلة علمية أمريكية مرموقة(14)، نشرت 3 مقالات، لكبار العلماء، كل منها يختلف مع الآخر في التفسير!.. حيرة ما بعدها حيرة، أمام ألغاز، لا يعلم سرها سوى خالقها، فسبحان من صوّر ودبّر وقدّر!!..
يوسف الذكير
للتواصلyathekair@hotmail.com
المراجع
1 الفصل الرابع الصفحة «111» من كتاب:
«الأساطير والمعتقدات العربية قبل الاسلام» د. ميخائيل مسعود.
2 الصفحة «341» من كتاب: فلسفة العالم في القرن العشرين تأليف: د. يمنى طريف الخولي.
4 الصفحة «228» من الفصل السابع الجزء الثاني من كتاب: العالم الاسلامي تاريخ كيمبردج الموضح الصادر عن جامعة كيمبردج البريطانية
islamic world combridge illustrated history
page (228) chapter (7) part (2)
5 الصفحة «237» من كتاب: بزوغ بواكير العلم الحديث تأليف: توبي. إي. هاف.
The rise of early modern science page 237 by t.e.huff
6 الصفحة «41» من الفصل الثالث من كتاب:
«الكون» تأليف كارل ساجان.
cosmos page (41) chapteriii by:carl sagan
7 الصفحة «54» من المرجع السابق.
8 الصفحة «201» من كتاب فلسفة العلم في القرن العشرين. تأليف د. يمنى طريف الخولي.
9 الصفحة «119» من كتاب «الكون الأحدب»: قصة النظرية النسبية» تأليف د. عبدالحميد بدر.
10 الصفحة «169» من كتاب «الكون» تأليف: كارل ساجان
11 الصفحة «94» من كتاب: «الثقوب السوداء والأكوان الوليدة». تأليف ستيفن هوكنج.
black holes and baby universes, by stephen hawking
12 كتاب «تاريخ موجز نلزمان» تأليف ستيفن هوكنج
abrief history of time by: stephen h
13 الصفحة «73» من الكتاب المشار اليه في تلك الفقرة، والموضح في «11» أعلاه.
14 الصفحات «2747» من مجلة ساينتفك أمريكان عدد يناير 2001م
|
|
|
|
|