| مقـالات
عندما تسلمت كتاب معرض الفنان مهدي الجريبي (جدل) الذي أقيم في المدينة العالمية للفنون (باريس) من 113 تشرين الأول 2001م أدركت حينها بأن مؤسسة المنصورية للثقافة والابداع تقدم شيئا متميزاً للفن التشكيلي على اعتبار أن من الأدوار التي تقوم بها المنصورية إبراز الفن التشكيلي السعودي الرفيع وبالتالي أردت مشاركة قارئي الكريم في محتوى هذا المعرض من خلال قراءة ما بين السطور حيث تقول المنصورية إن أعمال الجريبي تجمع بين ثلاثة محاور تصب في تقاطع واحد: العمل الفني مرآة للذاكرة.
في محوره الأول يلجأ إلى اعادة احياء ذاكرة الآخر باعتماد الأثر الجاهز عملاً فنياً كاملاً وتكريسه في عرضه وفي محوره الثاني يخلط آثار الآخرين أي ذاكرتهم المكتوبة أو المرسومة في عمله التصويري لتقاسم الماضي والحاضر وفي محوره الثالث يحرر ذاكرته من خلال تصوير رسم أقرب إلى سباق للحاق بالذاكرة عندما يسجل حركة الذراع في تخطيطات تصويرية واضحة غامضة وكأنها ومضات للتذكر والنسيان.
إن العقل له قيمة حيوية تمتد مع الأيام لتحول ما هو مهمل إلى أشياء نفعية فالفن التشكيلي كان من أهم الوسائل التي حولت الغث إلى سمين والرخيص إلى نفيس والقبيح إلى جميل وبالتالي فإن جدل ابداع فنان أثمرت تجربته وبحثه في تحويل الماضي إلى بصمة واضحة في الذاكرة بأسلوب مميز وفكرة تحلق في فضاءات العالمية لذلك استوقفتني المنصورية في رؤيتها «ان مؤسسة المنصورية ترى في عمل مهدي الجريبي أحد الأمثلة الشابة والجادة بحثاً ونوعية في الفن التشكيلي السعودي وفي رعايتها لمعرضه بباريس رغبة في توكيد توسيع الدائرة الناشطة للحركة الثقافية السعودية نحو آفاق جديدة ونحو فضاءات لا يمكن إلا أن تولد لقاءات مثمرة» وليس هذا فحسب وإنما الفنان ذاته بإبداعه المتميز واختياره للخامة والأداة المناسبة حيث يقول: «اعلم أنها مجموعة من الطاولات المدرسية البالية والمهملة يزيد عمر استخدامها عن خمس وعشرين سنة عندما تأملتها أصبت بحالة عصف ذهني لقد كانت الحياة تنبض بخفوت إنما بوضوح على تلك الأسطح الخشبية، ألواح تشكل ذاكرة جماعية موثقة لأشخاص (كانوا هنا جميعاً) 3321 رقم لطالب جلس وراء طاولة ما وهو لم يعد رقماً مجرداً بعد غياب صاحبه انه الذاكرة الباقية لصاحبه العابر».
لقد أراد الجريبي ابراز الذاكرة الجماعية الموثقة على الألواح المهملة وحول الوقائع المهملة إلى فلسفة فنية تحدد ضرباً من المفارقة بين أقلام وأدوات وضعت أثرها على الطاولات.. لاعدادها ثلة من الطلاب أو الطالبات.. بعضها.. تنفيساً عن الاحساس بالملل اثناء الدرس وبعضها لامبالاة بالأثاث المدرسي وبعضها عبثاً.. وجميعها لم تكن في الحسبان انها سوف تتحول إلى نهج فكري يمارس من خلاله فلسفة تواصل الإنسان رغم غيابه وبقاء أثره بل ان هذا التواصل هو ما ذكره الجريبي (انطلق في تجربة «جدل» من التصور الفلسفي لمفهوم بقاء الأثر لاستحضار الذاكرة الجماعية وذلك امتداد للبحث المنهجي الذي أعمل من خلاله على تصدر المحتوى والابتعاد عن تكريس الشكل غاية أولى للعمل الفني. هذه الألواح المعروضة دون أي تدخل تكشف حالتها البكر عن هويتها كمثل سجلات تصويرية قديمة حديثة لأصحابها).
إن أعمال الجريبي حقيقة لا تقف عند رؤيتها للخطة ثم تنتهي بل إنك تبحر معها في آفاق تجربتك أنت مع «الشخبطة على الطاولات المدرسية» وتعيد مستوى الفكر الذي كان يجمع بينك وبين أقرانك وذلك أيضا ما ذكره (جان كلود لوغريك) «تمتلك أعمال الجريبي أنظمة بصرية متناسقة تستميل فوراً تعاطف المتلقي إلا أنها سرعان ما تثير في نفسه تساؤلات حول احتمالات الدلالات وحول مصادر الأعمال المعروضة أمامه». لقد استطاعت المنصورية طرح ما هو متميز وتؤكد ذلك من خلال (تقصينا لتفاصيل بحث الجريبي المهم في هذا المجال نعثر على تنوع تقني تبرره تلك الزاوية الواسعة الانفرج في النظر إلى التقنية هي وسيلة تعبير وليست غاية بذاتها، ولربما في فن بصيغة الحاضر عن ذاكرة هي حكماً في صيغة الماضي، تقريب لذلك الماضي ليصير أساساً لحاضر يطالب دوماً بذاكرة حية حتى لا تعيش حاضراً بصيغة الماضي).
إن «جدل» موقع.. رؤية واطلاع ومناقشة تمتد في فكر الأجيال وتأخذ مساحات تجمع بين عطاءات الإنسان حينما يكون قادراً على التنفيس ثم تتحول إلى شيء يجمع بين قراءات التاريخ ومستوى التعبير، وحاجتنا.. لتقليب الذاكرة وارتباطنا بالطاولة والكرسي الخشبي وصبرنا عليها حيث لا نستطيع الآن فلكل زمان مقال.. وما خطته أنامل تلميذ.. قد يكون متمرداً أو مهملاً أو متذمراً أو عابثاً تحول إلى صفحات بحث في واقع يجعلنا فعقد المقارنة بين اهتمامات التلاميذ بالتعبير عن أنفسهم بواسطة الرموز والعبارات الرنانة.. وكتابة اللقب.. واسم الشهرة.. فجدلا.. تجعلنا نقف كثيراً مع ذاكرتنا فهل قرأنا.. جميعاً طاولة لنا.. قد جلسنا عليها بكل سنوات.. وماذا ستعيد إلينا.. إنها حقاً مثل سجل الذكريات الذي دون به أشياء كثيرة وجاءت المنصورية من خلال الجريبي لتقلب صفحات في مواقع عالمية ليمتد الأثر من هنا.. وحتى أبعد المسافات ذلك من خلال مشروعها لبناء جسور التواصل مع ثقافات العالم وامتلاكها للمحترف الفني في باريس ليكون قاعدة لابتعاث الفنانين الجادين فمزيداً من هذا الدعم التشكيلي المتميز للمنصورية.
|
|
|
|
|