قلت في مقالة سابقة: إن الأمة الإسلامية تعيش الآن وسط أجواء مكفهرَّة تحيط بها العواصف الهوجاء من أعدائها الخارجيين، وتهزُّ كيانها عوامل هدم داخلية نتيجة تأثُّر بعض قادتها ومثقَّفيها أنفسهم بأفكار أولئك الأعداء حتى باتوا يردِّدون ما يقولونه أو يكتبونه دون تمحيص. أما العواصف الخارجية فقد اتضحت في سرعة تكتُّلها حول محورها المتمثِّل في أمريكا، التي جعلت من نفسها الركن الشديد لدولة الصهاينة ذات السجل الإرهابي الأول فظاعة في العالم. وأما عوامل الهدم الداخلية فيكتشفها ما تكتبه أقلام، أو تنطق به أفواه، أو ترتكبه أيد، من أقوال وأفعال هي العجب العجاب.
وقلت في مقالة سابقة أخرى: إن فكرة محاولة إطلاع الرأي العام الغربي على حقيقة ما يجري على أرض فلسطين من جرائم صهيونية فكرة نبيلة الهدف، لكن نتائجها المثمرة غير يسيرة التحقُّق لأسباب من أبرزها:
1 أن قضيَّة فلسطين قضيَّة عربية إسلامية. ونظرة الغرب، على العموم، إلى العروبة والإسلام نظرة غير حيادية، بل منحازة مع اختلاف درجات هذا الانحياز.
2 أن النفوذ الصهيوني، إعلاماً، ومالاً، وتنظيماً، متغلغل في المجتمعات الغربية، وما زال يزداد تغلغلاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
3 أن الغرب رغم وقوفه مع المجرمين الصهاينة لم تتأثَّر مصالحه الاقتصادية في البلاد العربية والإسلامية، فما الداعي لتغيير مواقفه؟
لقد مرَّ تاريخ الأمة الإسلامية مع الغرب بتجارب مريرة. وليس هناك داعٍ للرجوع إلى صفحات هذا التاريخ القديمة نوعاً ما، مثل تلك التي دونت جرائمه ضدها في الحروب الصليبية. بل يمكن تجاوزها إلى تأمُّل ما حدث خلال القرون المتأخرة. فقد مدَّ الغرب نفوذه الاستعماري البشع على كثير من أقطار المسلمين، ولم يخرج المستعمرون الغربيون منها إلا بعد جهاد طويل وتضحيات عظيمة.
وما حدث من هولندا في إندونيسيا، ومن بريطانيا في شبه القارة الهندية وجنوب الجزيرة العربية، ومن إيطاليا في ليبيا، ومن فرنسا في المغرب العربي، وبخاصة في الجزائر، أمثلة شاهدة على تلك البشاعة.
ويأتي الاستعمار الصهيوني، وجلاوزة قادته من الغرب، لفلسطين متجاوزاً في بشاعته كل أنواع الاستعمار الغربي الذي عانت منه الأقطار الإسلامية الأخرى. ذلك أنه قائم على أساس عنصري لم يقتصر على احتلال الأرض ونهب خيراتها، ولم يكتف بأن تكون له الكلمة الأولى في تسيير دفة الأمور في البلاد التي اغتصبها، بل تجاوز هذا وذاك إلى العمل على القضاء على شعبها، قتلاً أو تشريداً، والسعي لطمس هويَّتها.
وكان سجله الإرهابي المستمر من قبل إقامته دولته ومن بعد إقامتها سلسلة متواصلة الحلقات. وليس ما يقوم به قادتها من بشاعة إلا حلقة من تلك السلسلة. ومن الغباء، أو التغابي، أن يقال بأن قادة هذه الدولة العنصرية يختلفون حول أهدافها. إنهم إنما يختلفون حول أساليب تحقيق هذه الأهداف. ولا فرق بين شارون بكل ما يتَّسم به من رعونة وصفاقة وبيريز بكل ما يتَّصف به من مراوغة وخبث. وكلّ من زعماء طغمة الليكود وكبار زمرة العمل يعبِّرون عن مواقف الرأي العام الصهيوني وآرائه، ولم يصلوا إلى سدَّة الحكم إلا باختيار هذا الرأي العام.
وإذا كان ذلك هو الوضع فإن من الغباء، أو التغابي، أيضاً، أن يُفرَّق بين أفراد شعب الدولة الصهيونية وقيادتها في تحمُّل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. وإن من المؤسف والمؤلم أن يوجد من يؤمل في أن أحد التيارين الرئيسين في تلك الدولة يمكن أن يتنازل عن هدف من أهدافها الأساسية.
على أن الأدهى والأمر أن يوجد بين من يحتلّون مناصب دينية إسلامية مرموقة من يستنكرون أعمال أولئك الأبطال الذين يقدِّمون أرواحهم في الجهاد ضد العدو الصهيوني الشرس بحجة أنه يترتَّب عليها سقوط مدنيين، وكأنهم يجهلون بأن كل مدني صهيوني فهو حقيقة تحت الخدمة العسكرية! أو كأنهم لايرون كيف يقتَّل الفلسطينيون المدنيون، رجالاً ونساء، وأطفالا!
ومن المعلوم أن أمريكا، الركن الشديد لدولة الصهاينة، قد احتلت مركز الصدارة بين دول العالم، من حيث القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها أصبحت زعيمة المعسكر الرأسمالي الغربي في مواجهة المعسكر الاشتراكي الشرقي، الذي كان بقيادة الاتحاد السوفيتي. وإذا كان هذا هو الوضع الذي أصبحت عليه قبل تفكك هذا الاتحاد فإنها صارت المتفرِّدة في السياسة الدولية بعد تفككه، وبات ما يُسمَّى بمجلس الأمن مجرَّد أداة في يدها تصرّفه كيف تشاء.
وما أراني غير مصيب عندما قلت في إحدى قصائدي:
تملك الدنيا وتحكمها
بعصا الإذلال والدَّخَن
دولة من كيدها ملئت
جنبات الأرض بالمحن
مجلس الأمن الذي زعموا
كيفما شاءت له يكن
وأمين من صنائعها
نصبته غير مؤتمن
ولا أراني مخطئاً عندما وصفت مواقف زعماء أمتنا ضعيفي الإرادة بقولي:
السادرون من الحكام ما برحوا
يرجون من نهب الأوطان واستلبا
لمجلس الأمن قد مدُّوا أكفَّهمُ
ساء المؤمِّل والمأمول منقلبا
هل يفرض المجلس الدولي سلطته
إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟
وما إن رأت القيادة الأمريكية ما أصبحت عليه من مكانة حتى اقتنعت بوحي من غرورها أن القوة هي الحق، فنصبت نفسها شرطي العالم الوحيد، الذي يملي على الجميع ما يريد، وعليهم أن يخضعوا لما يشاء. وليس لأحد الحق في أن يعلِّق مجرَّد تعليق على ما قام به رجال مخابراتها، خلال عقود متتالية، من أعمال إجرامية في بقاع العالم، سواء بتدبير اغتيالات للزعامات التي ترفض هيمنتها أو الإتيان بقيادات تحقِّق المصالح الأمريكية لا مصالح شعوبها.
وعندما حدث ما حدث في أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر الماضي بغض النظر عن تصنيفه أو البحث عن سبب توجيهه ضدها دون الدول الغربية الأخرى التي سبق أن استعمرت بلداناً كثيرة بينها بلدان إسلامية اندفعت بكل ما تستطيع من سرعة وقوة للتحضير لحرب هائلة، معلنة أن أية دولة لا تقف معها في هجومها على من تستهدفهم فإنها تُّعدُّ دولة إرهابية، وأن حملتها لن تكون مقصورة على أفغانستان، بل ستشمل كل من تصنِّفهم هي وهي وحدها أنهم إرهابيون أو يحمون الإرهاب.
ولأن ما أعلنته أمريكا من تصميمها على إجبار العالم على الوقوف معها، اقتنع أو لم يقتنع، قد بدا في عيون الكثيرين صلفاً ما بعده صلف فإن ردود الفعل الأولى له كانت مترِّيثة نوعاً ما. فكان هناك من طالب بالتحقُّق من الأدلة، وكان هناك من طالب بعقد مؤتمر لتعريف الإرهاب. لكن لا موقف هؤلاء ولا موقف أولئك صمد طويلاً. وإذا كانت بريطانيا الامتداد السيئ لأمريكا في أوربا، وفيروسها المعدي في بقاع مختلفة من العالم، قد سارعت إلى الانضمام إليها فإن ذلك لم يكن غريباً. على أن الدول الأوربية الأخرى التي أبدت تريُّثاً في بداية الأمر، لم تلبث أن عانقت الركب. واتضح أن سبب ذلك التريُّث لم يكن إلا لرؤية ردود الفعل الإسلامية. فلما وجدت أنه «ما بالحمض أحد» كشَّرت عن أنياب عدائها، قولاً وعملاً. ولأن الدلائل توضِّح أن المستهدف المسلمون والتوجه الإسلامي فإن جميع خصومهما رموا بثقلهم في ميدان المعركة، سواء كانوا بقايا شيوعيين حاقدين يمارسون حرب إبادة على المستضعفين المسلمين الرازحين تحت استعمارهم البغيض، أو وثنيين ملأ الغيظ قلوبهم على المؤمنين برسالة التوحيد، أو مستغربين ملكت عقولهم أفكار الغرب حتى أصبحت تكره وتحارب كل توجه إسلامي في بلاد المسلمين ذاتها. بل إن زعامات دول إسلامية أرسلت قوات تحارب مع القوات الأمريكية. ومنها من بلغت بها الاستهانة بكرامة شعبها المسلم أن عرضت على أمريكا إرسال أفراد من هذا الشعب إلى أفغانستان ليتجسَّسوا لقيادة تلك القوات.
وكان ما كان من أعمال نفَّذتها القوة الأمريكية المدمِّرة ومن وقف معها، وهي أعمال امتدَّ بعضها إلى المدنيين الأبرياء، وبلغ بعضها من بشاعته أن أدَّى إلى إبادة جماعية لأسرى مكبَّلين بالأغلال.
ومع أن أعمالاً كهذه تعدُّ جرائم ضد الإنسانية فإن العالم لم يدنها. ذلك أنها من عمل السادة الأقوياء، وأنها موجهة ضد أناس بينهم عرب يتلهَّف الصهانية إلى إبادتهم. ومن المعلوم أن كثيراً من العرب في أفغانستان أبرياء. ولقد وصلت حالتهم إلى درجة أن يدفع من لديهم بنات أموالاً إلى رجال القبائل الأفغانية ليتزوجوهن أملاً في صون أعراضهن بعد إبادتهم التي تيقنوا من حدوثها. وإن من له قلب رؤوف وعاطفة نبيلة لا يملك وهو يرى عدم تحرك قادة العرب سياسياً لإنقاذ المنتمين إلى أرومتهم ودينهم إلا أن يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.