أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 10th December,2001 العدد:10665الطبعةالاولـي الأثنين 25 ,رمضان 1422

مقـالات

رسالة شعرية من ولدٍ بارّ إلى والده
د. محمد العيد الخطراوي
اما الولد البار فهو الشاعر المملوكي «ت 688ه»: شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان التلمساني، الكومي، المعروف بالشاب الظريف. وأما الوالد فهو عفيف الدين المتقدم «ت690ه» ولد بتلمسان واقام بالقاهرة طويلا، ثم انتقل منها إلى دمشق، وفيها توفي، وكان من علماء الصوفية المرموقين، وكان الشاب الظريف ولده الوحيد، الذي لا يكاد يفارقه في حل ولا ترحال، وحين افترقا في شأن من الشؤون لفترة طارئة يسيرة، تحركت في نفس شاعرنا الشاب الظريف الأشواق، وعصفت بقلبه الرقيق، فكتب إلى أبيه رسالة شعرية رقيقة تنضح حباً وشوقاً (الديوان ص 98)، وسعيدٌ كل من ينجح في زرع محبته في قلب ولده، ومن أجل تناول أفضل للعقيدة قسمناها إلى مقاطع، اشتمل المقطع الأول على سبعة أبيات عبر فيها عن شدة شوقه لأبيه، وسيطرة صورته الحسية والمعنوية عليه، فقد ملأ عليه ذلك جميع أفكاره وأوقاته، وأطل عليه من جميع جهاته، واستغرق كل خلواته وروحاته وجيآته، فلا يشتغل عنه بغيره أبداً:


أبداً بذكرك تنقضي أوقاتي
ما بين سُمَّاري، وفي خلواتي
يا واحد الحسن البديع لذاته
أنا واحد الاحزان فيك لذاتي
وبحبِّك اشتغلت «حواسي» مثلما
بجمالك امتلأت جميع جهاتي

ومتعته إنما تأتي من انشغاله بحبه، ورضا نفسه يكتمل برضاه عنه، واستهدائه باختياراته له:


حسبي من اللَّذات فيك صبابةٌ
عندي شُغلت بها عن اللذَّات
يا حاضراً، غابت به عشاقُه
عن كل ماضٍ في الزمان، وآت
حاسبتُ أنفاسي فلم أرَ واحداً
منها خلا وقتاً من الأوقات

ثم أشار إلى تفوق والده على كل المتصوفة، وسبقه لهم بعلوِّ مقاماته، وتعدد عطاءاته، وتنوع طرائقه للوصول إلى مراتب الكمال، ومعارج الوصول، ومباءة محاولاتهم التفوق بالفشل، ثم الاقتناع بسبقه عليهم، فتكون بداية المقطع الثاني:


ومدلَّهين حجبت عنك عقولَهم
فهمُ من الأحياء كالأموات
تتلو على الهضبات تطلب ناشداً
منهم، كأنك في ذرى الهضبات
لما بكوْا وضحكتُ، انكر بعضُهم
شأني، وقالوا: الوجد بالعبرات
فأظنُّهم ظنُّوا طريقك واحداً
ونسوا بأنك جامع الأشتات
ما تستعد لما تفيض نفوسهم
فتغيض من كمدٍ، ومن حسرات

وحين يحس أنه قرر لوالده المكانة اللائقة به في عالم التصوف، وبالتالي ضمن له مكانته عند الناس، باعتبار ان التصوف قيمة في ذاته، وهو قيمة اجتماعية كبرى في ذلك العصر الذي كان يعاني من هذا المرض العضال الذي خدر الأمة، وهيأها لضربات التتار وغيرهم من اعداء الاسلام، حين احس شاعرنا أنه أدى ذلك بالأبيات السابقة اتجه فيما يلي إلى الدعاء لأبية ومرابعه، فيقول بادئاً المقطع الثالث:


يا قَطْرُ، عُمَّ «دمشق»، واخصص منزلاً
في «قاسيون»، وحلِّه بنبات
وترنمي يا وُرق فيه، ويا صَبا
مرِّي عليه بأطيب النفحات
فيه الرضا، فيه المنى، فيه الهدى
فيه اصول سعادتي وحياتي
فيه الذي كشف العمى عن ناظري
وجلا شموس الحق في مرآتي
فيه «الأب البرُّ» الشفوق فديتُه
من سائر الأسواء والآفات

ويستمر في ذكر منن والده عليه، وبرّه به ودعائه له ومقابلة سيئاته بالاحسان إليه والعفو عنه فيقول:


كفٌّ تمدُّ بجوده نحوي، وأخ
رى للسماء بصالح الدعوات
واذا جنيتُ بسيئاتي عدَّها
كرماً وإحساناً من الحسنات
وإذا وقيتُ بوجنتيَّ نعالَه
عدّدتُ تقصيري من الزلاّت

وهو مجتهد في دينه، زكي «النفس، منعدم النظير، محمود السيرة، طائر الصيت، يلقاه كل الناس بالثناء والمديح في كل ارض وفي كل مكان، ممزوجا بأنفاس الصَّبا العبقات.


لم يرض بالتقليد حتى جاء في
التوحيد بالبرهان والآيات
نفسٌ زكت، وزكت بها أنوارها
في صورة نسخت صفاء صفاتي
بهرت وقد ظهرت سنا، وتقدست
شرفا، عن التشبيه والشُّبهات
في كل ارض للثناء عليه ما..
يُروى بأنفاس الصَّبا العبقات

ثم في المقطع الاخير يناديه نداء الابن البار، والعبد المطيع لسيده ومولاه، مفتخرا بمحاسن أبيه بين الناس مزدهياً بها، واجداً منها ما يجد النشوان من لذة المدام، وانه ليمتزج بوالده إلى حد التوحد، فهو الغائب الحاضر، والبعيد القريب.


أأبي، وإن جلَّ النداء، وقلَّ مق
داري، نداء العبد للسادات
أنّى التفتُّ رأيتُ منك محاسنا
ان ملت نشوانا، فهنَّ سُقاتي
وبسرِّك استأنستُ حتى انني
لم أشك عنك تغرّبي وشتاتي

وإني لا ادخر للشدائد غيرك، لاشفاقك عليَّ، وعلمي بقدرتك على رد العاديات، وصد الحادثات، فببأسك أتقي، وبقوتك ألقى الخطوب فتتحطم على صخرتك، وأظفر بالنجاة:


واذا ادخرتك للشدائد، لم تكن
يوماً لغمز الحادثات قناتي
واذا التقيتُ او اتقيتُ ببأسك ال
خطب الملم، وجدت فيه نجاتي

ولا معنى للوجود بدونك، بل أنت الوجود ذاته، وما غيرك من الموجودات الا رجع الصدى، ولعل للبيت الآتي علاقة من قريب او بعيد بما اشتهر عن الولد الشاعر، والوالد العالم الشاعر أيضا، بالاعتقاد بوحدة الوجود:


وأرى الوجود بأسره رجع الصدى
وأرى وجودك منشأ الأصوات

والعبارة الآتية «فعليك منك» ربما أكدت هذا الفهم، وذلك حين يختم القصيدة بقوله:


فعليك منك مع الأصائل والضحى
تتلى أجلُّ تحيةٍ وصلاة

بالاضافة إلى ما يمثله هذا النص مما عرف بالرسائل الشعرية، فإنه يمثل علاقة ولد بوالده، وذلك شأن اجتماعي أسري، نطلُّ من خلاله على واقع اجتماعي كان سائدا في العصر المملوكي، وترفرف على النص أيضا من ضوء لغته، سمات النصوص الدينية، وتنشر الفاظها في سائر الابيات، ولا غرابة في ذلك فهو ابن عصر تسوده الصوفية وتعلو فيه اقدار المتصوفين.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved