| عزيزتـي الجزيرة
يوجد في الجيب الأمامي لثوب زميلي الجامعي أبو عدنان قلم أزرق أنيق وبجانبه «مفك» كهربائي أصفر لطيف، واذا حق لي أن أقرأ السلوك العملي لزميلي من خلال «جيبه» فإنني أقول ان القلم الأزرق الأنيق يرمز إلى عمله الجامعي الذي يقتضي منه أن يعلم بالقلم ويؤلف به الكتب ويعلق به على المسائل المهمة للطلاب، أما المفك «الأصفراني» اللطيف فهو يومئ إلى مصدر الرزق الجديد الذي تفتقت عنه ذهنية زميلي الأستاذ الجامعي حين ألحت عليه أموره المادية أن يبحث عن داعم لراتبه الهزيل، فافتتح محلاً «للتبريد والتكييف» ووضع فيه عاملاً أميناً يعمل عنده بنسبة معينة، والشرط الشديد بين الأستاذ وعامله هو أن الأستاذ الجامعي ليس ملزماً أبداً أن يعرج على المحل حتى في وقت قبض الدريهمات من أجل ألا يشك الناس بأن الأستاذ الجامعي الخطير قد انشطر فكره حين انشطر مصدر رزقه، ولذا يجب أن يظهر أمامهم بأنه المخلص الأمين للتدريس الجامعي المقدس، لكن يبدو أن الجيب الأمامي لثوب صديقي أبو عدنان قد فضحه من غير أن يشعر حين ضم المتنافرين القلم و«المفك».
ومن حينها بدأت أهتم اهتماماً سطحياً ببقية زملائي الأساتذة الجامعيين فرأيت منهم في محاولة كسب المال عجباً.
فبعضهم وهم كثر جرى حثيثاً خلف طلب الرزق من خلال البيع والشراء في العقارات فصاروا من دهاقنة العقار، وآخرون وأنا صادق في هذا اتجهوا نحو مهن عادية جداً قد لا يساعد الخيال على تصورها لولا أني رأيتها بعيني اللتين في رأسي.
فأحدهم افتتح مجموعة من «البناشر» ليتنقل في يومه الطويل بين أحبار القاعات في الجامعة وزيوت المشاحم في الشوارع، وآخر اتجه إلى افتتاح سلسلة من مطاعم الوجبات الخفيفة فصار مرجعاً موثوقاً في الشاورما والفلافل والمقبلات الشامية، وآخر ساقه القدر إلى الاتجار بالبقر!! فأصبح علاَّمة في التفريق بين الجرسي والهولندي والنجدي والسويسري، وآخر أصبح «شريطي» سيارات يستطيع أن يلمح الخدش في «الرفرف» كما يلمح المحقق انحراف الكلمة في مخطوط عتيق.
وسيراً على هذا النمط وفي يوم من أيام تجوالي للتسوق رأيت أحد أساتذة الجامعة متلثماً تلثماً مريباً فتبعته ببصري فإذا به يختطف على حين غرة أربع كراتين فارغة كانت ملقاة بجانب احدى البقالات ويقذفها بسيارته ولم أستطع أن أفك اللغز إلا بعد أسابيع حين رأيته يكثر الدخول على ملحمة جزارة علمت لاحقاً أنه يملكها وأنه يجمع الكراتين ليضع الزبائن الأعزاء فيها أكوام لحم الحاشي والهرفي.
هذه الأحاديث ليست شطحة خيال، ولا تقول فارغ إنني أعرف هؤلاء بأشخاصهم وأستطيع أن أسميهم لو لزم الأمر غير أني اتحاشى الأشخاص لأعالج المشكل.
إن وضع الأستاذ الجامعي من الناحية المادية ولنكن صرحاء لوضع صعب جداً. فراتبه هزيل لا يكاد يفي بالمتطلبات الحياتية من فواتير ومركب ومسكن، والعلمية من كتب ومراجع ورحلات علمية وهو إلى ذلك لا يقبض أي بدلات للسكن أو التنقل مع أن المدرس الأجنبي يمنح بمزيد من الحفاوة والتكريم كل هذه الأشياء، ولو أردت أن أعمل مقارنة عملية عجلى لقلت إن زملاءنا الذين تخرجوا معنا وذهبوا لتدريس الصف الأول ابتدائي هم اليوم يملكون فلة محترمة وسيارة معتبرة وراتباً أعلى بكثير من رواتبنا نحن الجامعيين، أي خلل هذا؟ ولماذا يهمش الأستاذ الجامعي مادياً؟؟ هل أقول انه لا تثريب عليه اذن ان ينسحب ليتكسب بزيوت السيارات وأنواع الأبقار ولحوم البرابر السمان؟
إن نسبة تسرب الأساتذة من الجامعات نسبة مخيفة وانجفال هؤلاء الأساتذة نحو القطاع الخاص بحثاً عن الرزق مؤشر خطير لأنه في أقل الحسابات خسارة فادحة على الجامعة والدولة التي تعبت في الصرف على هذا الأستاذ منذ أن كان معيداً ثم مبتعثاً ثم دكتوراً ثم في النهاية وبعد كل هذا الإعداد الدؤوب الذي يصل إلى عشر سنوات أو أكثر يلتفت فيولي الجامعة ظهره ويتخذ شعاراً جديداً هو كما يقول الأول:
المال يستر كل عيب في الفتى
إن على الأساتذة الفضلاء الذين نهدوا لاعادة تقييم سلم الرواتب لأعضاء هيئة التدريس الجامعيين في مجلس الشورى الموقر أن يوصوا بإحداث قفزة مرضية ومعتبرة تجعل المدرس الجامعي يكف عن التسلل لواذا ليزيد غلته أو على الأقل تقلل من نسبة الذين يُشركون في عملهم الجامعي الأكاديمي عملاً آخر ليبتعدوا عن الدخول في متاهات الاتجار غير المتخصص الذي يشوش الذهن، ويكد الخاطر، ويجني في النهاية على العطاء الجامعي المتعطش للتفرغ والتخصص.
د. إبراهيم الفايز
أستاذ جامعي
|
|
|
|
|